الأربعاء، 3 ديسمبر 2008

هكذا .. يُصبحُ موتي مُدهشاً !

-1-
.
.
الأوطان رحلت يا صديقي , لم يعد هناكَ متّسعٌ من الأمل , عقارب الحُزن تُشير إلى تمامِ الفقد , وحدها أقدام حبّك تسير في الإتجّاهِ المُعاكسِ للأوردة !

ضحكتكُ , أوراقكَ , و قلمكَ الأسود الذي يُشبهني , يُسبغان عليَّ الهدوء , فأشعرُ أنّ ذاك المقترب منّي , لن يأخذَ روحي العالقَةَ بكَ إلا لتتقمّص زهرة الاوركيد التّي تحبّ .

أغلق عينيك , ودع أهدابَك تلامسُ الشّجن النّازف على وجهي , ودع نبضَ يديك يلفّ أشباح خاصرتي .

أتذكرُ الياسمينة المتعربشة على كتف بيتنا ؟

كانت تجمعُ دموعَ انتظاري لك تحتُها , وتُخبئّها ياسميناتٍ , لتتساقط فوقك .

أتذكر العصفور الذي أهديتني إياه يومَ ميلادي , وأطلقته أنا في اليوم التّالي ؟

كنتُ أعلم أنّك ستحزن , ولكن خوفي على حريّته كان يفوق رغبتي في احتضانه .


البكاءُ اللّيلة سينقض كل عهود الحزن التي مضاها - مُكرهاً - على أوراقِ غضبك, لن ينتحب الأرق الليلة يا حبيبي , فصوتُ موسيقى الفرح يتعالى .

دعنا نرقص , واملأ روحي بأبجديّتك , هذه اللّيلة ستكونُ الأجمل , الأكثر وجعَاً .. والأدقّ رحيلاً .

أترى كيف بدأَت السّماء تُمطر , أتسمعُ صوتَ عناق السُّحب , وصوتَ خطواتِ المطر على الذّراتِ المُتراقصة في حديقتنا , أليسَ ذلك مُدهشَاً ؟

الدّهشة .. ؟

الدّهشة .. كانت دوماً صديقةُ حُزني معك ,رفيقة دربَ عشقي لّك , والشّاهدَ الأخير على أملي بك .

عندما سأغلق عينيّ , لا تنسَ أن تقرأ لي قصائدكَ , وأن تجدلَ شعري بأوراقك , وأن تدع عينيك تتلو السّكينة على قلبي , بينما يكلّل صوتُكَ عُنقي بالرّحمة .

هكذا فقط .. يصبح موتي مُدهشاً .
/
-2-
.
.
لماذا حينَ فتحتُ عينيَّ للمرّةِ ما بعدَ الأخيرةِ , لم أجد أصابعكَ تلتفُّ حولَ ضفائري و تحتضنُ خصلاتِ شعري ؟

هل كنتَ تكذبُ عليَّ حينَ قلتَ أنّ للموتِ رائحةَ الكرزِ و لونَ التّوتِ , و صوتَ البلابلِ الحزينة ؟

أم أنّ فرحي بقدرتي على الغيابِ عنكَ للمرّةِ ما قبلَ الأولى و أنتَ تبتسم , جعلَني أعجّلُ باغماضةِ قلبي و ما حانَ وقتُ الموتِ بعد ؟

كنتُ أستمعُ لنبضِ الرّعشةِ في يديك , كانَ اسمي يسري كتيّارِ أرقٍ يعبرُ مساماتكَ فتُمطرُ ماءاً بطعمِ الفرح ..

و كنتَ ترقبُ شفاهي علّها تُخبركَ بسرِّ صندوقِ الحياةِ الّذي طالما فتّشتَّ عنهُ في جزر عشقي لك ..

أتعلم ؟

أشعرُ أنّني لم أعد قادرةً على الموت , بعضٌ من نبضِ الانتظارِ ألهمَ جسدي دماً يعبقُ برائحةِ الأرضِ في نيسان ..

أشعرُ أنّ وردةً ستنبتُ في كفّي ,

و هنا عصفورٌ ينقرُ زجاجَ صدري و يخرج بجناحيهِ الصّغيرتين و بهِ رغبةُ الطّيرانِ حتّى عين الشّمس ..

و هناكَ زهرةُ نيلوفر تشقُّ عتمةَ وجهي و تتطاول بزهوٍّ فوقَ سطحِ الشّحوبِ , ثمّ تفتحُ بتلاتها و تحتضنُ طيرَ الفرحِ من صدري , و تغوصُ بهِ بسكينةٍ في أعماقِ الحلم ..

أتراكَ كنتَ تدركُ أنَّ رحيلي سيغمضُ عينيكَ حتّى عن يديّ إذ تشدُّان على معصمكَ و تنقلانِ بعضاً من آخر قوايَ المنهكةِ إليك ؟

أو كنتَ تعلمُ أنَّ رئتي المشحونة بدخّان الغياب , و شعبي الهوائية المتناهية في الاختناق , ستستطيع دفعَ وسادةِ الوجعِ عن وجهي و استنشاقَ صوتك من جديد ؟


لا زلتُ أحاولُ بذاتِ الإصرارِ أن أستقيمَ كوجعي و أن أجهلَ وجهي مقابلاً لكَ , موازياً لمرآةِ الضّوءِ إذ تعكسُ ذاكرتَك بي ,

لا زلتُ أحاولُ استيعابَ حلكةِ البياضِ من حولي , و هسيسَ البكاءِ في أذني , و صقيعَ الوحشةِ يغتالُ أطرافي و أنتَ معي !

لا زلتُ ....

و أستمعُ إلى تنهيداتِ التّرابِ المنهال على لقائي بك , أسمعُ انهمارَ المطرِ على أوراقنا و صوتَ اغتياله لحروفنا و انثيالهِ كسيلٍ حزينٍ في ذاكرتنا المشتركة ,
يجرفُ كلَّ طفلٍ صغيرٍ ولدَ في لهفتنا و رعتُهُ أيدي لقاءاتنا ..

أستمعُ و لا أرى .. لم أعد أرى , مُنذُ أن قبَّلتَ عينيَّ بأصابعك .. و كلّلتَ عنقي بصوتكَ ..

و أصبَحَ موتي مُدهشاً ..

الخميس، 27 نوفمبر 2008

كَمن/جَات !








صباحي يتقطّرُ بكَ ,


يتكاثفُ كـُ حبّاتِ المطرِ الهاربِ في يومٍ صيفيٍّ شديدِ الحرّ ..


ثواني الدّهشة , تحتلُّ ايماءاتِ وجهي , لتخلقَ لغةً جديدةً للفَرَح ..


ابتسامتي أنت ,


و ادراكي لتفاصيلِ ارتباككَ امامَ عينيّ الناطقة بك , يُبعثرُ الغيمَ و ينثرني بينَه ..


لا تحاول القبضَ على رجولتكَ المتبعثرةِ أمام طغيانِ العشقِ الممتدّ بتفاصيلي,


لأنّك ستدركُ أنّ روحَك ثائرةٌ لا محالة على قضبانِ جَسَدك .




محاصرةٌ أنا بك


ممتلئةٌ بك


مورقةٌ بِك


معشبةٌ


ممطرةٌم


تأججةٌ


مزروعةٌ


مهاجرةٌ


منفيّةٌ


بـــــك !




:




وريدي يلفُّ كتفيك , يسكنُ النّبضَ الهائجَ في عروقِ يديكَ ..
و أوردتُكَ تُزَ نِّرُني , تسكنُ الشّهقةَ المتمرّدةَ في جَسَدي ..
ليسَ وحدَهُ الدّم يجمعنا ..
ولكنّه وحدَهُ من يُبعثِرنا ..




:




لماذا يتناسلُ الكافُ بأيجديّتي , ليسكنَ فضاءاتِ الـ أنا , المُتَقَمَصَّةِ بِك ؟
أفتحُهُ بِدَهشَتي , وتكسِرهُ أنتَ بِها ..
وعَبَثاً أنهالُ بأرقِ الذّاكرةِ على طيفكَ , فلا أهدمُ إلا ذاكِرَتي بدونك ؟




:




مُترفةٌ أنا بِك , تمارسني ارستقراطيّاتُ الحبِّ مُعُك , و تعتَنِقُني شُعوبُ الشّوقِ الكادحة في اللا غيابـ / ك..



مدّثرةٌ أنا بصوتِكَ القادمِ من ملايين القُبَلِ الضَوئيّةِ حيثُ لهفتِي المُشتعلةِ بمراكبكَ, و حرائقكَ المُتَلهفّة بمراكبي ..



متوسّدٌ أنتَ بحنيني لِصَدرك , تُشعُّ باقترابي كعناصرِ الشّمسِ, لنلتقي على الجسور الأبديّةِ لاحتضارتِ الغيابِ البارد ..



متدفِّقٌ أنتَ بي , تعانقُ محبرتُكَ أبجديّتي , لترسَمَ بي , جناحانِ و أغنية , و سواحلَ نائيةً إلا عنك !



مغرورقةٌ أنا بدمكِ , يهطلُ شوقي لمُعانقتِك , و شفاهُ الأرقِ تطبعُ قُبلةً على جبينِ المسافاتِ المحترقةِ بِنا / بيننا .



غارقٌ أنتَ بتفاصيلِ صوتي , المتزيّنِ بك , يلفُّك شالاً أزرقاُ على عُنقِ البُعد ,




و يموسقني [ لا ] على سُلّمِ أحلامك .






:




تعزفُ على أوتارِ الرّغبة الحيّة , لتجعلَ غروري بكَ , متطاولَ اللهفة , متوازيَ الفرحِ والأرق ..



ضحكاتنا معاً تورقُ كـ آذار , و تذوبُ بينَ أيدينا كمربّعاتِ السّكر في فنجان شاي الصّباح ..



من شراييني تقطفُ حنينكَ المتقّد , ومن أجزاء يديك , أشتمّ رائحة نيسانَ الملتحفِ بارتعاشاتِ الشّمال حينَ يعانقُ الشّمس !



وحينَ تُفاجئني عينيكَ , و أنا أطلق رئتيّ كحمامتان بيضاوانِ فوقَ صدرك , ينكمشُ الرّبيع , و تتحوّلُ الأوراقُ إلى سحابة !



يا سيّد الياسمين و الكرز و عناقيد العنب ..



اللغةُ تتماهى بين أصابعي حينَ تعبرني عيناك , الحرفُ ينفردُ بي , فيوقظَ في داخلي ألف أميرةٍ نائمة ..



طيفكَ يطاردني حتّى مشارف الحلم , يسوّر قلبي بالموج , فتولدُ في داخلي ألفُ ثورةٍ بكَ / معكَ / لأجلك ...



و اشاراتُ الاستفهام تطوّقُ جيدي الممهورَ بك :



كيفَ أشربُ الغيماتِ و أهطلكَ نوراً يعانقُ قوسَ قزح ؟



كيف أرتدي أشجارَ الكستناء , و أمارسُ ايماني بكَ في ليلةِ رأسِ السّنةِ القلبيّة ؟



كيفَ أتلحّفُ بالمرجانِ , وأموت معكَ بسكتةٍ عشقيّةٍ طاغيةِ في العُمق ؟



وكيفَ يصبغني الشّفقُ في صباحِ التّوت الذي تنثرهُ فوقَ وجهي ؟






:




مساءُ البرتقال , أيّها الرابضُ عند مدخلِ حديقتنا, تراقبُ عصافير السّمان التي جاءت تشي بالرّبيع لضفائري ..




مساءُ شقائقِ النعمان ,تتعالى لتلامسَ يديّ المارّة ذات صدفةٍ كاذبة قربَ حدائقِ روحك ..




مساءُ قوسِ فرَح , يحلّلُ أرقي بك , إلى سبعةِ ألوانٍ للسّهر و يرسمُ ضحكتي المورقةَ بك , أغنيةً جامحةً بلون الندى العالقِ على شفاهِ الشّوق .






.مساءُ الغيماتِ الزرقاء , و السّماءِ ذات الشّفق , و النّوارسُ تحملُ في أفواهها , بعضاً منّي إليكَ , فتحتضنه !




:




ومَن قالَ بأنَّ خَصري لَن يُعلنَ اللّيلةَ العصيانَ علَيكَ ؟




أيّها المتزيّنُ بشوقي , المغرورُ بذاكرتي تختزنُ رائحتك ,




المختالُ بأهدابي تُغطّي جبينكَ فتشعرَ بالدّفء




.يا أَنت ..




رسائلُ الفرحِ ما كتبتها أزهارُ المشمش في نيسانِ مدينتا إلا لك , و سنونواتِ اللهفةِ المهاجرة لم تبني أعشاشَ العودةِ إلا لتحتضنَ أوردة يديك ..




يداكَ جذعان للفرحِ و الأرق , عليهما تتسلّقُ طفولتي , لتقطفَ بعضاً من حلوى , استرقها تطاولُ الوقت .




فاترك للشّمس يا سيّد الحزنِ المعتّقِ , مهمّة مراوغةِ الظلِّ المُلقى فوقَ رأسي , و عانق بيديكَ مجرّات الدّهشة , أعدك , ستسمعُ رفرفةَ السّعادة الحُرّة !




أتوقنُ حقّاً , ماذا أكتب , ولماذا أكتب , لا عليك , المهم فقط أن تفتح يديك الآن و تغمضَ حزنكَ , وتتركَ التّعب ملقىً على عتبةِ ضفائري , و تأتي لاحتضانِ شوقي هذا المساء .






:




لتكن يداكَ حضننا الدّافئَ هذهِ اللّيلة , لا تفعل شيئاً آخر سوى أن تلامسَ أطرافَ فرحي ..

لا تعتقِد بالفُراقِ و نجمةِ الشّمالِ و وجهِ الحبِّ الأزرقِ الّذي يجلبُ الحظّ , دعكَ من أشيائيَ المرميّةِ في صوتي و ألبِسْنِي يديكَ !

تنقّل بينَ أضلاعي , مرّر شفتيكَ على ظنّي و أثبت لي اثمهُ إذ يعتقدُ بأنَّ دفئاً آخر سيحملُ إليهِ الشّمس ..

ابدأ بالقراءة و سأتّتبّعكَ قُبلةً قُبلَة , إن واجهكَ اسمي , لا تتوقّف .. أكمل و سأتظاهرُ بعدمِ رؤيتي للمطرِ على صدرك , سأكتفي بأن أقولَ أنّني نسيتُ مِشبكَ يديكَ على شعري و أنشغلُ بتعديله !

هلّا أغلقتَ النّافذة ؟

أخافُ أن يطيرَ قلبيَ بجناحي صوتكَ فتفقدَهُ و أُمضِي أَنا ليلَتِي بلا حُنجرَة !

حين تبتسم أُدركُ انَّ اللّيلَ فشلَ في سرقةِ انتباهكَ عن اسمكَ المعلّقِ على جيدي ,

ثمّ ..

كيفَ تزرعُ الصّمتَ على شفتيكَ في ذاتِ الوقتِ الّذي تقولُ فيهِ كلَّ الكلام ؟

و كيفَ تستطيعُ استخراجَ ثرثرةِ اللّهفةِ من داخلي دونَ أن أقولَ شيئاً ؟

نقطةُ الصّمتِ تلكَ الّتي نتوقّفُ عندها سويّةً في ذاتِ اللّحظة , لا تعني فقط تآمرنا على رغبةِ الوقتِ و وقتِ الرّغبة , بل هي أيضاً فواصلُ انقطاعٍ نمارسُ فيها التّنفّسَ سويّاً خارجَ حدودِ الكلام !

الجمعة، 31 أكتوبر 2008

ابتكارُ الكتابة و ارتباكُها !

يذهبُ البعضُ إلى أنَّ الشّعر هو موسيقى الكتابة و أنَّ النّثرَ هو كلماتها , فإذا اتفقنا على انتظامِ منظومةِ الشِّعرِ بقواعدِ الوزنِ و القافية و انضباطِ صياغةِ الشِّعر بالبحورِ , فإنَّ النّثرَ على أنواعهِ لا يخضعُ لقوانينَ محدّدة , إنّما تحكمهُ القدرةُ على سبكِ المعنى و صياغةِ اللفظِ و إيصال الفكرةِ و التأثير في القارئ . و هذهِ المعايير , تختلفُ من كاتبٍ لآخر , فتجدُ أحدهم يعتني باللّفظِ بالدّرجةِ الأولى , و آخر بالمعنى و هكذا .
و النثرُ لغةً : تحسينُ الكلام و قد قال أبو حيّان التوحيدي : "إن النثر من حيز البساطة، والنظم من حيِّز التركيب" , إذن فالنّثرُ بدأً من تحسينِ الكلامِ المحكيّ و صياغتهِ بطريقةٍ أدبيّةٍ جميلةٍ قادرةٍ على الإيحاء العاطفيّ و الفكريّ , و نقلِ أفكارِ الكاتِبِ من صيغةِ الكلامِ العاديّ إلى حيّزِ التّعبير اللغوي .
و من هنا يمكننا القول أنّ الأصلَ في النّثرِ هو البساطة .
و لمّا كانَ الأدبُ ملَكةً و موهبةً , فإنّهُ لم يقتصر على نوعٍ واحدٍ من الكتابة إنّما تعدّاها إلى مراحلَ كثيرة كانَ فيها للبلاغةِ و فنونِ الأدب جولاتٍ كثيرة , فكانت المقامات و الرّسائلُ و الخطابةُ و الروايةُ و الخاطرةُ و الشّعرُ المنثورُ و النّثرُ الشّعري .
و ممّا لا شكَّ فيه أنَّ تطوّر الحياة و ازدياد معرفةِ الإنسان و خبراتهِ و ثقافته لهُ أثرٌ كبيرٌ في تطوير الأدب , تماشياً مع الحاجات الاجتماعية المتجدّدة و الأكثر تعقيداً .
و الرمزيّة في الأدب كانت إحدى نتائجِ هذا التّطور , ففي أواخر القرن التاسع عشر ظهرت مجموعة من الكتّاب عُرفوا آنذاك بالأدباء الغامضين , أعلنوا ولادةَ مذهبٍ جديدٍ في الكتابة و جاءَ في بيانهم الذي نشرته الصحف الفرنسية آنذاك : إن هدفهم "تقديم نوع من التجربة الأدبية تستخدم فيها الكلمات لاستحضار حالات وجدانية، سواء كانت شعورية أو لا شعورية، بصرف النظر عن الماديات المحسوسة التي ترمز إلى هذه الكلمات، وبصرف النظر عن المحتوى العقلي الذي تتضمنه، لأن التجربة الأدبية تجربة وجدانية في المقام الأول".
و كانَ من أبرزِ أدباءِ هذا المذهب آنذاك : بودلير و بول فاليري و البريطاني أوسكار وايلد .
ثمّ كانَ انتقال الرّمزيّةِ إلى الأدبِ العربي الحديث و ظهورها في الشّعر و ا لنّثر كظاهرة لا مذهب , إذ أنَّ الأدباءَ العرب الذين اعتمدوها في كتابتهم ظلّوا على مذاهبهم الواقعيّة أو الكلاسيكيّة أو الرومانسيّة و طعّموها بالرّمزيّة , كجبران خليل جبران مثلاً و صلاح عبد الصّبور و أدونيس و ميّ زيادة .
و الرّمزيّة إذ تعتمدُ على الغموض بالمعنى القريب و الإيحاء بالمعنى البعيد , تًعدُّ ثورةً على المعاني و الألفاظ العاديّة و التشبيهات و التّعابير المتكرّرة , إذ يُصبحُ في الرّمزيّةِ لكلِّ شيءٍ معنىً آخر , قادراً على الإتيانِ بالفكرةِ المُرادِ إيصالها , إنما على شكلٍ بديعٍ و مختلفٍ و متجدّد .
و هي تعتمدُ على التأثيرِ في نفسِ القارئ , إذ أنَّ مجموعةً من الإيحاءات تتجمّعُ في محاولةِ إيصال القارئِ إلى الحالةِ النّفسيّةِ للكاتب و بذا الوصولِ إلى نقطةِ تراسلِ الحواسّ و تبادلها في التّعبيرِ الأدبي , حتّى تستمعَ العينُ و ترى اليد !

مُفترق طريق :

الكثير من النّصوصُ النّثريّة المتكاثرة على صفحاتِ المجلّات و الجرائد و المنتديات الأدبيّة تعاني من اضطرابٍ في الناتّج الأدبيّ , اضطرابٍ ما بينَ الغموضِ المُبهم و الإيحاءِ المحفِّزِ للذّاكرةِ و الإحساس , و ما بينَ بساطةِ المُفردة و تعقيدِ اللّفظ .
فهناكَ نصوصٌ " فاخرةٌ " تقدِّمُ للقارئِ وجبةً لُغويّةً دسمة , غنيّةً بالمفرداتِ و الألفاظِ " الغير عاديّة " , إلّا أنّها تفتقدُ للرّوح و لأبسطِ معاني الكلام , حتّى أنَّ بعضها لكأنّهُ اجتماعُ جملٍ اُقتبِسَت من كتب البلاغةِ , إلّا أنَّ لا روحَ تجمعها و لا رابطَ يأخذُ بالقارئِ إلى مرفأ أمانٍ يُمكِّنهُ من جمعِ المعاني التي أرادَ الكاتب إيصالها .
و هناكَ نصوصٌ فيّاضةٌ بالمعاني و الأحاسيس , إلّا أنّها تفتقرُ إلى أقلِّ عواملِ الكتابة و مقوّماتِ اللّغة و تتكاثرُ الأخطاءُ النّحويّةُ فيها إلى درجةِ الإحباط .

و بعضُ الكتّاب يقعُ في فخِّ الغموضِ بينما يُحاولُ أن يصلَ بما كتبَ إلى مستوى الرّمزيّةِ القادرةِ على وصفِ الواقعِ و تلمّسهِ بأيدٍ خفيّة تكشفهُ دونَ أن تجرحه , و تحكي عنهُ دونَ أن تفضحه , إلّا أنّهُ يكتبُ نصّاً يوحي للقارئِ للوهلةِ الأولى أنّهُ كُتبَ بلغةٍ أخرى !

إذن هناك خطٌّ رفيعٌ جدّاً يصلُ بينَ قدرة النّص على التّأثير على القارئ و الوصول إلى عقلهِ و قلبهِ ببساطةِ المشاعرِ , وبينَ بلاغة النّصّ و استخدامهِ للألفاظ القادرة على خلق لوحة تعبيريّة مُتقنة الجمال , بعيدة عن الاعتياديّة و التّكرار , من خلال اللّفظ المتجدّد و الإيحاء المُتقن .


فاصلة :

لا نستطيعُ الحكمَ على نصٍّ نثريٍّ بأنّهُ مكسورُ الوزنِ أو معطوبُ القافية , إذن لا قواعدَ تُحدّدُ فشلَ النّصِّ النّثري من نجاحه ,
لذا كانَ مجالُ الكتابةِ النّثريّةِ أوسع , و الاعتداءُ عليها أكبر !

الخميس، 18 سبتمبر 2008

إعلامُ الإِعلَان , إلى أَين ؟!




تمّكنّ الإعلامُ العربيّ في السّنواتِ الأخيرة من تحقيقِ خطوةٍ لا بأسَ بها نحوَ التجديد و الانتشار , إلّا أن خطوته تلكَ كانت مرافقةً للكثيرِ من الهفواتِ و الاخطاء الّتي ملأت أسماعنا و أبصارنا بالغثِّ و الرديء ,

فإعلامنا اليوم , في عصرِ التقنية و التّطور و سيادة السّياسة و المخطّطات الامبريالية و الراسماليّة و الحروب النفسية , لا زالَ يعاني من مشكلةِ الانتماءِ المٌسيّس و أقصد بذلك الانتماء لسياسةٍ ما تحدّدُ نوعَ ما ستطرحهُ جهةُ الإعلامِ هذه , و تؤطّرهُ في اطارٍ يناسبُ توجهّاتِ و تطلّعاتِ تلك السّياسة و مساحة حريّتهِ الوحيدة هي الإعلان - إن كان لهُ فيها حريّةٌ فعلاً ولم يكن الإعلانُ أسوءَ حالاً منه -

و حكايةُ الإعلانِ هذهِ لوحدها حكاية , إذ أنّ الخطَّ الّذي يسيرُ فيه هذا " الفنّ " يتّجهُ نحوَ تحويلِ الإنسانِ إلى سلعةٍ و مستهلكٍ في الوقتِ ذاته ,
فالإعلانُ يعتمدُ غالباً على طرحِ الانسانِ كمروّجٍ للسّلعة , فترى مثلاً دعايةً لأحد أنواعِ القهوة تقدّمها حسناءٌ ما , تجعلك تظنُّ انّ شرائكَ للقهوةِ سيمنحكَ جمالها بشكلٍ أو بآخر !

هذهِ الحسناء المطليّة بكلِّ انواعِ المكياج تظهرُ لكَ ايضاً في اعلانِ إطاراتٍ أو قطع غيار أو ربّما دعايةً لفندقٍ ما أو حتّى لـِ " كريم " أو لـِ ادواتِ تجميل أو لعطرٍ ما الذي يتعمّد الإيحاءَ بأنّ المرأةَ قد تصبحَ ذاتَ جاذبيّةٍ أكثر باستخدامها و ربّما تغيّر عُمرها و شكلها أيضاً!!

إنّ اعتمادَ الإعلانِ على إثارةِ الرّغبةِ الجنسيّةِ لدى المشاهد و قبول المُشَاهد ذلكَ تحتَ أيِّ مبرّرٍ , ليسَ سوى حسب رأيي تأكيدٌ على " سلعنة " الإنسان و مشاعره .

و الامرُ لا يختلفُ جدّاً عندما يكونُ غرضُ الإعلانِ استغلالَ المشاعرِ الإنسانيّة و القيم النّبيلة و الضّمير لدى النّاس لأجل ترويجِ سلعةٍ ما , كدعاياتِ شركاتِ الإتصالاتِ مثلاً و الّتي توحي لكَ بانّ صلة رحمك لن تكون إلا عن طريقها , أو حتّى البطاقاتِ الائتمانيّة فيِها قد تسعدُ قلبَ امّكَ او زوجتكَ بهديّةٍ تدفعُ ثمنها لاحقاً !

هذا الاستغلال الواضح للانسان بأيِّ طريقة , يحوّلُّ الإعلانَ إلى ساحةِ مزايدةٍ على المشاعر و على القيمِ الانسانيّة و على الخصوصيّة و العلاقة الحميمية للشّخصِ بمن حوله , و يحوّلُ المواطنَ إلى مستهلكٍ يُقبلُ على شراءِ السّلعِ تحتَ تأثيرِ هذا التّنويم الإعلانيّ فيشعرَ ان سعادته لن تكتملَ إلا بزيادةِ الاستهلاك , و ينخفضُ بذلكَ سقفُ طموحاته و أحلامه , و يبدأُ بالتّفكيرِ في سيّارةٍ جديدة أو مصيفٍ ما أو حتّى اقامةٍ في فندقٍ أشبهَ بالخيال .
و حتّى اهتماماته و همومه تُسيطرُ عليها الرّغبةُ في كسبِ المزيدِ لأجلِ تحقيق الاستهلاكِ أكثر و تلبيةِ الهواجسِ الإعلانيّةِ في خياله .

و لا أبالغُ إذ قلتُ أنّي أرى أنّ الاستهلاكَ المؤدلجَ عن طريقِ الإعلان , هو مرضٌ عضالٌ بدأ يتسلّلُ إلينا فيزيدَ من علّاتنا علّة و كأنّ المواطنَ العربيّ ما كان ينقصهُ سوى حمّى الاستهلاكِ تلك .

إنّ توجّهَ الإعلامِ إلى الإعلانِ بهذه الطّريقةِ المؤذية يجعلنا نفكّرُ كثيراً في ماهيّة الطّرح الإعلامي بوجه ٍعامّ , في مدى مصداقيّتهِ كونَهُ سُلطةً أخرى لها تأثيرٌ كبيرٌ جدّاً في المجتمع ,
يجعلنا نفكّر فيما إذا كانَ إعلامُ المسابقاتِ و الرّبحِ الماديِّ و الشامبو و العطور و العلكة و الشيبس ,جديراً حقّاً في تمثيلِ ثقافةِ بلدنا أمامَ الآخرين , و في توجيهِ عقولِ اطفالنا المتابعينَ لهُ غالباً على مدارِ السّاعة .

" فاصل إعلاني و نعود و نواصل "

جملةٌ أصبحت تتخلّل حتّى البرامج الدّينية و الثقافية و العلميّة و نشرات الاخبار !!

ويبقى سؤالٌ أخير :

أينَ احترامُ عقليّةِ و روحِ الإنسان في إعلامِ الإعلان ؟!

الاثنين، 11 أغسطس 2008

محمود درويش , ويكتملُ الغياب ..





" و زرعتُ أزهاري

في تربةٍ صمّاءَ عاريةٍ

بلا غيمٍ ,, و أمطارِ

فترقرقت لما نذرتُ لها

جرحاً بكى برموشِ أشعاري .."

أيّها الرّاحلُ هناك , توقّف فمنَ " الخليجِ إلى المحيط لا زالوا يعدّونَ الرّمال " ,

توقّف فما زالَ في جسدِ زهرِ اللّوزِ جرحٌ لم يفور , ما زالَ في زهرِ جسدِ اللّوزِ جرحٌ لم يغور ..

ما زالَ هناكَ أمنية , تنقلُ صوتكَ إلى القلوب الغافية ,

تحملُ حنجرتكَ المكرّسةُ لأغاني الوطنِ في أفواهِ الرّصاصِ إلى الأيادي الثّملةِ بالخيانة ..

توقّف ..

لا زالَ هناكَ " أحمدٌ " غافٍ على رصيفِ الجرحِ يبكي , يُطلقُ من فوهةِ عينيهِ قنبلةً تُسقطُ في كلِّ يومٍ وجهاً عارياً ,

و يسمعُ قلبكَ ينبضُ ,

فيتلو و أمامَ يديهِ غصنُ ليمونٍ " سقطَت ذراعكَ فالتقطها , و اضرب عدوّكَ لا مفرّ " ..

توقّف لم يبقَ في بيروتَ ألفٌ و باء , و على رفوفِ دمشقَ تصطفُّ العصافيرُ و تغترب ,

و القدسُ تئنُّ و في يديها " تتكسّرُ السّماءُ على رغيفِ الخبز " ,

و بغدادُ تنعي حزينةً جسدَ الحلمِ القتيل ,

و " لا جديدَ لدى العروبةِ " ..

يا محمود , لِمَ ترحلُ و تتركُ قصائدَ الوداعِ تائهةً على فمِ عاشقٍ يحلمُ بحمامةٍ تطيرُ و لا تخاف ,

تبكي و تجمعُ دموعها في سلّةٍ من قبلاتٍ لم ينفيها وطنٌ لأجلِ حزنٍ وجوازِ سفر ؟

يا محمود , بعضُنا باقٍ بعدكَ و كثيرنا رحلَ قبلكَ ,

هويّاتنا و انتماءتنا و بعضٌ من دمنا قد سبَقنا في ريحِ الغيابِ ,

و بقينا ننعي قيودَنا الموؤدة و حريّةً تائهةً على شكلِ قلم ..


أيّها العصفورُ المناضلُ في شظايا أمّةٍ فقدّت بليلةٍ وشاحها الذّهبي,

و التحفت بقصيدةٍ تمحو خيبةً أورثَهَا عقوقٌ بالأرضِ , بشبرٍ من الأرضِ ,

بذرّةٍ من ترابِ أرضٍ بلونِ دمِ النّوارسِ تحملُ في ثغرها قضيةً و جرحاً و أمّاً ثكلى , لا تزال عندَ عتبةِ البابِ تنتظر ..

عشرونَ عاماً كانَ أحمدُ العربيُّ يرحل , و عشرونَ عاماً , بقيتَ تحملُ جسدَهُ الصّغير , ليصرخَ في وجهنا :أنتم من انتخبتمُ المقصلة ,

لينثرَ فوقَ يدينا غيثَ دمهِ فترتجفَ قبلَ المصافحةِ و تتساقط ..

من سيبقى الآنَ و قد رحلت , و ماذا نفعلُ بأجسادِنا المتضائلة أمامَ جرحِ أحمدٍ ,

و وشاحِ " صبرا " المنتهك , و جناحِ محمّد الدّرة الّذي يريدُ - فقط - أن يعودَ إلى البيتِ بدونِ درّاجةٍ و قميصِ جديدٍ ؟

ماذا سنفعلُ و في كلِّ يومٍ تتهالكُ مآقي اللّغةِ على عتباتِ الحروفِ المخبّأةِ في طبولِ الفراغِ و فوقَ أرصفةِ المنفى المستوطنِ في الجسد ؟

علّمتنا أن للدّمعِ جذوراً , و استبقيتَ في عينِ أمّهِ دمعتينِ لأجلِ أخٍ أو صاحبٍ , قد يكونُ أنت ..

و كأنّكَ كنتَ تعرفُ أنّنا سنبكيكَ و نقتلعُ الدّمعَ من جذوره ,

أننا سندمعكَ و يقتلعنا جذرُ كلماتِكَ من بكائنا , لنردّدَ صوتكَ العربيّ الضّاربَ في عمقِ الحزنِ الموشّى بقصبِ الحبّ .. و

" عزاؤنا الموروث :
في الغيماتِ ماء ,
و الأرض تعطشُ ,
و السّماء تروى ,
و خمس زنابقٍ شمعيّةٍ في المزهريّة "


أيّها العظيمُ , عمركَ باقٍ إلى الأبدِ في اللّغة , و لكنّها ستبكيكَ ,

ستبكي حاءكَ و الميم , و سترثي لحالِ قصيدةٍ نذرت لقافيتها دالكَ الهاربةَ من منبعِ الضّوء ,

ستبكيكَ بيّاراتُ اللّيمونِ و حقولُ القمحِ و كرومُ العنبِ و أشجارُ التّفاحِ و مزارعُ الزّيتونِ وغاباتُ السّنديانِ و الأرزِ و واحاتُ النّخيل ,

ستبكيكَ نوارسُ البحر و سنونواتُ المدينةِ و قمرُ الشّتاءِ و المطرُ في صلاةٍ أخيرة , و لوركا إذ يودّعُ تراتيلَ الصّدقاتِ في اسبانيا و يحملُ

" آخرَ الأخبارِ من مدريد :
شبعَ الصّابرُ صبراً "..

أيّها الباقي في حناجرنا , تُشعلُ القصيدَ في أفواهِ دمنا ,

و تمنحُ بروحكِ إذ تحفّها ملائكةُ النّورِ سنابلَ القمحِ القديمِ طواحينَ الأفواهِ الصّدئةِ بالغيابِ و الرّحيل ,

فتنتثرُ اللّغةُ فوقَ مُدنِ الكلامِ كخبزِ غيمةٍ حُبلى بتلاواتِ الأرواحِ المكلومة ..

أنتَ أيّها المهاجرُ في الصّبحِ البعيدِ , على زندِ قصائدكَ ستولدُ ألفُ ريتا و تغفو كجفني سماءٍ تكتحلُ المساءَ و تودعهُ ثغرها الصّغيرَ سرّاً لبندقيّة ..

الآن إذ نصحو , سنتذكّر " طريقَ دمشق " و " قصيدةَ الخبزِ " و " الرّملِ " و " الأرض " ,

و سنحملُ " عبء الفراشات" على أكتافِ حطّابٍ و عاشقة ..

الآن إذ نصحو , سنذكركَ و في عينينا أمنيةٌ أن يبقى هذا الدّرويشُ العربيُّ , حنجرةَ الأجيالِ القادمةِ ,

و يدهمُ النّاطقةُ بحقِّ الدّمِ الغائرِ في الأرض ,

أن يبقى حبّهم المتّسع كحقولِ الذّرةِ و غزلهمُ الممزوجَ بالأزهارِ و البارود ,

و أطفالهم البريئةُ الّتي تكتبُ على جدرانِ ضميرهم كلَّ يومٍ حكايةَ الوطنِ الجريح ..

:

في قلوبنا باقٍ , و إلى رحمةِ اللّهِ مرتحلٌ يا محمود ..

الاثنين، 4 أغسطس 2008

Pantomime !

*

http://www.youtube.com/watch?v=GtD8Pgm1J-w&feature=related


:
لستُ ادري كم من عامٍ انقضى قبلَ أن أدركَ انّني شجرة ,

نعم شجرة ..


شجرة يُشبهُ لحائها وجوهَ الجدّات , و تبرزُ أغصانها متفائلةً كأوردةِ الملّاحينَ القدامى ,و تتبعثرُ أوراقها كضحكاتِ الأطفال قبلَ اغتصابِ الفرحِ بابتسامةٍ على الأقل !


ظننتُ دوماً انّي سنونوة , و حينَ وقفتُ يوماً على ذراعِ الأميرِ النّبيلِ في " مونتي كارلو " , علمتُ جيّداً أنّ رائحةَ الدّراقِ على أجنحتي أوحَت إليهِ بأن يذرفَ دمعةً بطعمِ اللّؤلؤ ...


ظننتُ خاطئةً أنّ لي أجنحة و أنّ أقدامي تنعمُ بحريّةِ الفضاءاتِ الهاربة من حدودِ الأزمنة , وددتُ لو كنتُ طائراً أكبر , بحجمِ يديكَ مثلاً , أو ربّما بطولِ أنفاسكَ و هي تردّدُ اسمي ..


حينَ اكتشفتُ أنّ أقدامي عالقةً برملِ حلمٍ مشبوه , و أنّ رائحةَ ترابِ وطني تفوحُ من دمي فتزرعني هُناكَ جُذعاً مكلوماً بأوعيته , و أنّ كلّ الرّقصاتِ الّتي تمرَّنَتْ عليها يدايَ ما كانت إلا كخيالِ مريضٍ يحلمُ بالشّفاءِ و هو على سرير الموت ..
حينها علمتُ أنّ الفرحَ كائنٌ أسطوريّ يُشبهنا , على مقاسِ خيباتنا , نحلمُ بهِ حتّى يتمثّلَ لنا بهم , ثمّ يتلاشى كدخّانِ عرّافةٍ محترفة !


:


تحتَ ثيابي كانت هناكَ امرأةٌ أخرى ,
لا ..
ربّما كانت حقيبةً لازورديّةَ الشّكلِ مختومةً بتواضعِ غرورٍ أتقنَ التّمثيل ,


أو ربّما كانت بضعةَ اسطواناتٍ بلحنٍ غريبٍ كـ " سوناتا " الوجع في لحظةِ تحرّرٍ من النّوتة !


شيءٌ ما غيري كانَ هُناك , كانَ يدركُ أنّني حينَ ألقاكَ سأتكوّم , و لذا كان يفردُ يديهِ و يقصُّ أصابعَ الغيابِ و يملأُ جبهتي بدمعه ,


شيءٌ ما كانَ يمنحني صوتاً لا أملكه , لأتظاهرَ امامكَ انّني لا زلتُ أنا , طفلةً بنكهةِ شجرةِ ليمون ,و لقلقلاً حزيناً لا يملُّ الوقوفَ على قدمٍ واحدة !


لذا كانَت كلماتي تُصبحُ فراشاتٍ منَ الدّانتيل الّذي تعشقهُ و هو يطوّقُ جيدي , و كانت حروفي تتحوّلُ إلى بقعٍ قرمزيّةٍ على مساءِ البحيراتِ المكتئبة فتمنحها شرفَ الموتِ بفرحةِ العناقِ الأوّل لبجعةٍ بيضاء ..


لذا كنتُ أنا هُناكَ ألتحفُ حلماً دائريّاً على مقاسِ اصبعي , و أناشدُ حلماً آخر ألا يتوقّفَ عن البُكاء ..

:

ليلةً حزينةً ..


قالتْها عيناك , ثمّ استدارت لتُكملَ دورةَ الغيابِ الأولى حولَ الفرح , وحدها يداك أيقنت أنّ أوتارَ الحنجرة تلتفُّ كأغصانِ العليّق على الفرح , فتمتلكُ خطواته .

شفاهكَ الّتي تعانقُ دخّانَ قلبي , لا زالت تُمارسُ ذاتَ الحركاتِ الفوضوّيةَ على سلالمِ عينيّ , و تعلّمني كيفَ تكونُ القراءةُ مبلّلةً بالمطر , و كيفَ تُصبحُ الموسيقى لوحةً سريالية !

ينحني ماردٌ عميقٌ بطولِ حُزني في داخلك , يحملُ وجهي في سلّةِ من قشِّ المسافاتِ الغريبة , و يتفرّسُ ملامحَ الفقدِ في عينيّ و يمرّرُ أصابعهُ بمحاذاةِ أرقي ثمّ يضعني أمامَ ذاكرته و يتضاءل ..

ليست يداي وحدها من تعلّمت الرّقص , فكل مساماتِ جلدكَ تُشاركها لذّة / وجعَ اللّهفةِ بذاتِ القدرةِ على سرقةِ الأشياء , بذاتِ القدرةِ على منحِ اللّون الأزرقِ شتاءَهُ الموؤد ..


أكنتَ تعلمُ أنّكَ حين ستحرّكُ كتفيكَ لا مبالياً بأناقةِ أنفاسي و تواترها الملتوي عبرَ صدركَ أنّ رأسي سيسقطُ و يتحرجُ على عتبةِ الكلام ؟


لا , كنتَ تظنُّ فقط أنّ الأثوابَ ترتدي وجعنا , ثمَّ تحيكَ لنا قصّةً على مقاسِ أرواحنا المهترئة , رقعةً بلون غيمةٍ منتشية أو ظبيٍ فقدَ صوته !


أمّا أنا فكنتُ أكثر جهلاً منكَ بي , فاعتقدتُ أنَّ المغفرةَ ملوّنة و أنّ الحبَّ ينتهي دوماً كأحلامِ الأطفال و أنّ الماردَ يخرجُ كلَّ صباحٍ من ذاكرتنا و يبني للسّعادةِ قصراً جديداً و يُهديها صولجانَ الحريّةِ و تاجَ الرّغباتِ المدوّرة ..

اعتقدتُ أنّ للفقدِ عينين يرانا بها و يتجنّبُ الوقوعَ بِنا , و أنّ سلالم الطّائرةِ تُدركُ الأرضَ الّتي تحتضنها و تُمارسُ تقبيلها كما يفعلُ عاشقٌ متمرّس , وأنّ الأيادي فعلُ انتماء و الاعينَ سلالُ عطشٍ من بيّاراتِ دموعنا المتناثرةِ على سفحِ حبٍّ وليد ..
:


لا زلتُ أشارككَ الرّغبةَ في احتضاني , و أراقبُ ظهركَ و أنتَ تلتجأُ لهُ خوفاً من وطنٍ لن يكونَ بحجم انتمائك , ثمّ تمارسُ حركتكَ المعهودة :

تديرُ رأسكَ و تتفقّدُ روحي على كتفكَ الأيسر , ثمَّ تربّتُ على رئتي في جانبِ صدركَ الأيمن , ثمّ تلامسُ شرياني في حنجرتك و تمشي باتّجاهِ البابِ المحاصرِ بأـشواكِ الرّحيل و تمضي و في عينيكَ سؤالٌ صغيرٌ بحجمِ طفلٍ جاوزَ سنتهُ الواحدة !

حينَ ستنهمرُ شلالات صمتي أمام دموعي , و تغمرني عيناكَ بخوفٍ طفوليٍّ على أنفاسيَ الموقوتة و نبضيِ المتقّد , سأعلمُ أنَّ شفاهنا موقنةٌ بحتميّةِ اللّقاءِ و ضرورةِ الفراق و انّها ستكبتُ أغنياتنا و تردّدُ اسمينا في قالبٍ من مشابكِ الفرحِ المخبوءِ في محيطاتِ الإيمان بالشّك و اليقينِ برعشةِ الخوف ,

حين ستُغلق ُالسّتائرَ خوفاً على لهفِ حروفنا من الهرب , و تدركُ أنّنا كلماتنا , أنّنا كلُّ حرفٍ نطلقهُ في العدم , أنّنا ثمانٍ و عشرينَ خيبةً و فرحاً و قلقاً و يقيناً , أنّنا نحرّكُ الأشياءَ بسكوننا , ونمنحُ مشاعرنا حياةَ الأقفاصِ الذّهبيةِ حين نصمت , و حريّة العصافيرِ الشّاردة حينَ نتكلّم ,

حينها قد ألّفُّ صوتكَ بشاليَ الموشّحِ به , و أضمّهُ إلى صدري ليلتحمَ بحنجرتي , و أهدي حِبالَنا الصّوتية إلى آخر خيوطِ الشّمسِ في الشّمال .. و نمضي !

* Jean & Brigitte Soubeyran , Pantomime, 1950

الأربعاء، 16 يوليو 2008

غـــوايــــة !




:

[ أصابعك قريبةٌ منّي ، تحوطني من كلِّ جانب ، كأصابعِ طفلٍ صغيرٍ حول نحلةٍ ملوّنة : تريدها وتخشاها ولا تطلقها ولا تمسكها ولكنها تنبض معها .. ] **


مفاجأة ...

أن يطلّ وجهكَ من بين غماماتِ السّهرِ المُلتصقِ على أجفان ليالي ذاكرتي , و هي تتستّرُ على وحدتها , كمايتستّرُ عاشقٌ مراهقٌ على براءةِ طفولتِهِ قبلَ القُبلةِ الأولى ...

أن اجدكَ بين حروفي في أوّل الأسطرِ و في خاتمةِ العبارات و نهاياتِ الحكاياتِ الصّغيرةِ , الّتي ما ملّت تدوّنُ تاريخَ حصادِ سنابلِ الانتظار منذُ أكثرَ من عمرينِ و قلق ..

مفاجأة ..

أن تجدني على صدركَ سنونوةً مهاجرةً من مجاهلِ الحقيقةِ حتّى تخومِ الأحلامِ ,تكفرُ بدفءِ الأولى و تتدثّرُّ ببردِ غيابكَ حدّ اندماجِ الظِّلال ..

أن تطاردني بينَ دهاليزِ اشتياقكَ لربيعِ القصائدِ الهاربة , كغزالةٍ وعدت أن تعودَ ذاتَ ربيعٍ و لم تفعل !!


مفاجأة ...

أن نجدنا كمقعدٍ حزينٍ في حديقةِ الأفراحِ السّرية , و أن نستطبعَ وحدَنا إعلانَ اندماجنا أمامَ حفيفِ الأوراقِ المتهامسة ..

أن نرمي معاً آخر قطرةِ حبرٍ للرّيح و نقرّرّ أن نعيشَ جنوننا بذاتِ رغبتنا الأولى في المشي تحتَ المطر , في أن تعانقنا أيادي نهر مدينتي الصّغيرة ,
في أن نمسح بأكمامِ أملنا مصابيحَ ذاكرتنا واحداً تلو الآخر , علّنا نحظى بأمنية اللقاء ..

:

[ أؤمن بك كما يؤمن الأصيل بالوطن والتقي بالله والصّوفي بالغيب . لا كما يؤمن الرجل بالمرأة! ] **


و ألتقيني بكَ كعشبةٍ سحريّةٍ بينَ يديّ عطارٍ قديم , كموعدٍ مؤجّلٍ عجّلت به لهفةُ الرّياحِ لبعثرةِ كثبانِ المكابرة ..

كطفلينِ التقيا للمرّةِ الأولى و في يدِ كلٍّ منهما لعبةُ الآخر , و حلوى لاثنين خبآها لعيدٍ مُنتظر ..

ألتقيني بكَ كما تلتقي الأزهار ذرّاتِ غبارِ الطّلعِ و تؤجّلَ ثمرَها -عن عبث - لشتاءٍ آخر , لبردٍ جديدٍ قد يعصفُ بأطرافها المتكوّمةِ حولكَ حدّ الانصهار ..

فقط .. حينَ أشعرُ أن لا أبجديّةً فرعونيّةً قادرةً على وصفِ لعناتِ الانتظار المسجّاةِ على أطرافِ نهرٍ أسمر ,
و لا حروفَ منحوتةً بصبرِ الأيادي الأولى على أعمدةِ الوعودِ القديمة ..

فقط حينها , أمدُّ شفتيَّ نحوَ صدركَ و أصنعُ من صوتي جسراً , لا علاقةَ لهُ بطعمِ الهزائمِ و حُرقة الانتصارات ,
و أمشي على أطرافِ وجعي , ألملمُ ضجيجَ فرحي بك لئلّا أوقظَ نبضي المبحوح ..
و ألتقيك .

:

[ سأترك شعري مبتلا حتى أجفّفه على شفتيك . ] **



و تمدُّ يديكَ إلى رئاتِ الخريفَ , لتلقطَ لنا صنوبرةً وحيدةً لأجلها نغفرُ اصفرارَ الغياب , و بها يتنشرُ الأوكسجينَ في واحاتِ الوقتِ المغروسِ كنصلٍ حزين ..


تهمسُ كضوءِ أوّل صباحاتِ الصّيف للزّوابع , للأحجار الملّونة , للأصداف , لأعشاشِ العصافيرِ الصّغيرةِ الرّمادية , لقوس قزح و لحظاتِ الحب و الرّياح المعاكسة لكلّ السّفن ,

تهمسُ للياسميناتِ الحزينات بموعدِ المساءاتِ الطّويلة , بأسرارِ اللّيالي الهاربة , و بحكايةِ الأميرِ الصّغير الّذي أحبّ من الوريدِ إلى الوريد !

تنقشُ وجهكَ فوقَ رقعةِ فرحٍ و تلّفها حولَ يديك , لتقلبَ بها كلّ قوانينِ الأزمنةِ الحالمة و الاحلامِ المُزمنة , و تجعلَ من الثّواني الهزيلة خطىً تجمعُ رمالَ العمرِ المتسرّبةِ في كفِّ نخلةٍ عذراء ..

:

[هل العصافير
رسائل الغيوم المتوحّدة إلى النّاس ؟

أم أنّ العصافير ,
صرخةُ الغيمةِ قبلَ أن تذوبَ عشقاً فتصيرَ مطراً ؟ ] *

و ربّما كنتَ أنت , رسالةَ الماءِ لغرقِ القصائدِ الحزينة و انهمارِ الشلّالاتِ المقيّدة , و انحباس الدموع في مآقي الفرحِ و الرّغبة ..

و كانَ غيابكَ رسالةَ المنفى لوطنٍ يتربّصُ بالانتماء , و يعدُ السّماءَ بقوافلَ من الصّرخاتِ المكتومةِ كلّ رحيل ..

أو ربّما منحتكَ المجرّةُ لكواكبِ الأرقِ لتزورها كمذنّبٍ خام , لم تمّسهُ عينُ الفراق و لم تحاصرهُ أزقّةُ المستحيلات ..

و ربّما ..

كنتَ أنتَ : أنا و جناحَ عصفور ..


:


[ هل الأصداف دفاتر مذكّراتِ الغرقى
و لذا ينبتُ اللّؤلؤُ في بعضها ؟] *


يحاولُ النّسيانُ أن يُبلّلَ أوراقَ ذاكرتي , فيفشل ..

و يهيمُ على تشرّدهِ بينَ القارّات , و يبقى لتلافيفِ العتمةِ , نورُ غيابكَ و حُرقةُ حضورك !!

:


** غسّان كنفاني

* غادة السّمان

الاثنين، 7 يوليو 2008

زوجي العزيز ... أنتَ طالق!

على غير عادة الأصوات النسائية المطالبة برفع الظلم عن المرأة , ارتفعَ صوتٌ ما في عقليَ الباطن حاملاً بيدهِ رايةً بيضاء ممهورةً بختمِ بحثٍ طويلٍ طويل , قادَ الفكرَ حيثُ يُزرعُ العنفُ و يُحصَدُ الشّتات .

الرّجل بقوّته الجسديّة , و تركيبه الفيزيولوجي و النفسي المختلف عن المرأة و المتّسم بالقوة , يوحي لنا بأنّ لهُ دور البطولةِ دائماً في قضايا العنف بأشكاله في المجتمع , بينما تُظهر الحقائقُ أموراً أخرى ..

ففي أحد الدّراساتِ ارتفعَ معدّل جرائم قتل الزّوجات لأزواجهنّ في السّنوات الأخيرة بشكلٍ كبير , كما ارتفعَ معدّل الرّجال الّذين يتعرّضون للضّرب من قبل زوجاتهم , حتى أنّ احد الرّجال في احدى الدّول العربية قامَ بتأسيس جمعيّة لحماية الأزواج من العنف الأسري !!

و بالطّبع فإنّ جرائم القتل الّتي تقوم بها النّساء تنطوي في الغالب كما لاحظت على قصّة مأساوية تنتهي بهذا الشّكل الرّهيب و لكنّها في أحايين كثيرة ناتجة عن غضب و تسرّع و تهوّر و تأصّل للعنف داخل الرّوح .

أمّا حالات الضّرب أو العنف الجسدي الّتي تحصل بينَ الازواج و تكون فيها المراة هي المعتدية , فقد أثبتت أنّ زمان " سي السّيد " الّذي يدخل البيت ساخطاً و يخرج متبرّماً و " لا يعجبه العجب " انتهى و ابتدأ زمنٌ جديد قد يفاجئنا في المستقبل القريب بعجائب قد لا تصدّقها الأعين .

ما أستغربهُ حقّاً سكوت بعض الرّجال عن العنف الجسدي ضدّهم , و محاولة تجاوزه أو في أحسن الأحوال محاولة التّفاهم مع الزّوجة و اقناعها بضرورةِ احترام العلاقة .

و ليسَ المُطالب هنا طبعاً ردّ العنف بعنف , و لكن على الأقل عدم السّكوت عن هذا الأمر , فالزّوجات اللواتي يتعرّضنَّ للعنف الجسديّ من أزواجهنّ - و ما أكثرهن - قد يصمتنَ خوفاً من شبح الطّلاق الّذي يهدّد حياتهن و وضعهنّ في مجتمع لا زال يتشبّثُ بأسماله البالية , أمّا أن يسكت الرّجل عن ذلك , فهذا ما لا أجد لهُ مبررا إلا و أقول ربّما الضّعف النّفسي للرّجل و انعدام ثقته بنفسه و برجولته و لا علاقة لهذا بحبّه لزوجته كما يجري على لسان البعض .


الأمر الآخر الّذي أودّ التّطرق إليه , هو العنف النّفسي ضدّ الرّجل و لهذا العنف أشكال كثيرة و غريبة بذات الوقت و قد لا يخطر ببالنا أنّها قد تنتمي فعلاً لأشكال العنف ..

بدءاً من ايهام الرّجل بأنّه يجب أن يتغلّب على مشاعره و يحافظ على صورتِهِ الشّديدة المتحجّرة أمام الجميع و الّتي أرى أنّها من حالات العنف و الكبت النّفسي للرجل المُطالب منذ طفولته بعدم البكاء مثلا !

ثمّ الاغراءات الّتي يتعرّض لها الرّجل -و ما أكثرها اليوم -, و قلّة حيلة غالب الشّباب الّذين يغالبون رغباتهم و يتعرّضونَ بهذه الطّريقة لكبتٍ و عنفٍ نفسيين جديدين .

و نأتي للحياة الزّوجية فالضّغط الّذي تمارسه الزّوجة على الزّوج , بدءاً من مشاكلها مع أهله و محاولة جذب غطاء العلاقة نحو أهلها , مروراً بالمتطلّبات الاجتماعيّة و الاقتصاديّة و الغيرة المبرّرة أحيانا و اللامبررة في كثير من الأحيان , ناهيكَ عن محاولةِ سحبِ كلّ خيوطِ حريّته الشّخصيّة محاولةً منها لاستبقائهِ و شغلِ كلّ جزيئات حياته .

و هذا لا يُبرر بالحب بقدر ما قد أبرّره شخصيّا بانعدام الثقة الاجتماعية بشكل عام , و بتدهور الأحوال الاجتماعية إلى الأسوء دوماً , بحيثُ أصبحَ الحصول على شريكٍ يحمل صفات الشّريك الحقّ من أصعب المهمّات الحياتية , إن لم يكن من أكثرها استحالة .

و في حين تبيّن لي من البحث و الاطلاع أنّ العنف الجسدي ضدّ الرّجال في المجتمع الغربيّ أكبر منه في مجتمعنا العربي , إلا أنّ العنف النّفسي - و هو برأيي أشدّ و أكثر خطورة - منتشرٌ أكثر في مجتمعنا العربي و هذا خاضعٌ حسب وجهة نظري للقيود الاجتماعية و العرفيّة الّتي يرزح مجتمعنا تحتها .


بغضّ النّظر طبعاً عن العُنف المؤدلج الّذي تعرّض لهُ الشّرطي النّاجح غيورغ من زوجته في الفيلم الألماني " الآخر " و الّذي نجحَ في تسليط الضّوء على طريقة ممارسة العنف الجسدي من قبل الزّوجة على الرّجل النّاجح المحبوب الناشط اجتماعياً مع ملاحظة محاولة المخرج تسليط الضّوء على العزلة النّفسية للزوجين عن بعضهما , مما قد يكون له الدّور الأساسي في حدوث هذا الشّرخ الكبير في العلاقة .



و بعيداً عن انتشارِ مسألةِ العصمةِ بيدِ الزّوجة , فإنّ انقلاب الأدوار باتَ وشيكاً بشكلٍ مثيرٍ للقلق , مما قد يجعلنا نسمعُ في القريب العاجل زوجات يصرّحنّ بـ ِ " زوجي العزيز أنتَ طالق , طالق , طالق !!! "

الأحد، 29 يونيو 2008

ما كانت الحسناء ترفع سترها !



ولأنني أنثى عربية تتسمّ بالخجل و الصمت والسكوت والرضوخ والخضوع وكل الصفات المستمدة من أبجدية شهرزاد في حكايات ألف كذبة وكذبة , سأقوم هنا بالخروج عن ملّة المراءاة وأكتب بقلم يشبه سوط جدّي الذي كان دائماً معلّقا وراء بابه الحديدي يحمله ويركض به وراء أولئك اللصوص الذين كانوا بختلسون ليلاً طمعاً في حرمة بيتنا القديم !

أريد أن أقول " لا " للكثيرين المختبئين خلف عباءات النقاء , أولئك الذين شربوا من الينبوع السّحري لذكورة مجتمع اتخذ من الأعراف والتقاليد قشوراً لا تغني ولا تُسمن من جوع !

أولئك المختبئون خلف أبجديات اللغة يمارسون الكتابة " ترقيما " أو ربما " تفحيطا " وفي كل الاحوال " معاكسة " تخلو من كل معاني النّفس المهذبّة التي تحترم الآخر مهما كان جنسه وجنسيته !

وربما كان من المفيد هنا رشّ بعض الماء على وجه الصدق والنخوة والشهامة التي جعلت المعتصم يسير بجيش جرار يلبي نداء امرأة التجأت ذات ظلم لرجولته !

لست هنا لأطالب بمساواة أو حرية أو عدل .... هذا ما سأفعله في مكان آخر .. أنا هنا فقط لأقول لهم استيقظوا من أحلام شهريار الذي كان يشير للنساء بالبنان فيأتينه خاضعات خائفات من بطش سيفه .. شهريارا رحل يا سادة منذ زمن و الليلة الأخيرة من لياليه الألف كانت شاهدة على ذلك !

أنا هنا لأقول لهنّ .. إذا قمنا بالسكوت كلّ ما تعرضت واحدة منا للظلم أو لسوء الظن أو للاعتداء على ا لحرية أو الكرامة أو الكبرياء أو المشاعر على يد أحد " الدون جوانات " , فستستطيل أفعالهم و سيظنون أن النساء خارج حرمة بيوتهم .. لا حرمة لهنّ وأنهن يسيرات الوصول . قريبات المنال !

ولأولئك المستقيلين من هذا الواقع البشع الملّوث .. أولئك الأنقياء بحق .. الذين لا يتشدقون بانتصاراتهم و يمارسون أدوار كازانوفا في كلّ قيلٍ وقال .. لا تكفي البصيرة يا سادة .. إذا ما فُقد البصر !

لا لحسن الظن ,, ومرحباً بالوقوف كغصة بين كل حرفٍ !

وللحديث بقيّة عند أولي الألباب !


الجمعة، 27 يونيو 2008

ظلٌّ مقطوع


على الكرسيّ المجاور لها سمعته يردد :


اللهم يا بديع السموات والأرض , ترفّق بها , فوحدك تعلم مدى حبي لها , اللهم ارزقها من لدنك رحمة تتساقط على وجعها رطبا جنيا .


كانت عيناه الدامعتان , تسلبان قلقها نحو تلك الغرفة المجاورة لغرفة أختها , وعندما علا صراخ طفلٍ صغير من تلك الغرفة , تهلل وجهه بالفرح , و تساقطت انهار دموعه تشكر الله بصوتٍ عال . ثم أخرج من جيبه ورقة نقدية و دسّها في يد الممرضة التي جاءت لتخبره بأنه رزق بمولود ذكر , بعد أن بادر هو بسؤالها : وكيف حال زوجتي ؟


في داخلها , كانت هي تغبط تلك الموسومة بالوجع في تلك الغرفة , و التي تحتضن الآن فرحة زوجها , و ابنها الذّكر .في الحقيقة كانت هي تغبط أختها أيضاً , رغم خوفها عليها , واتهامها لها بالغباء , فهذه هي ولادتها الخامسة ..

هي تحاصر نفسها بالأطفال و تقيّد حريّتها و جمالها بهم .ولكنّ أختها كانت تضحك دوماً , و تخبرها بأنّها حاملٌ من جديد .


بعد قليل أخبرتها الممرضة بأن أختها أنجبت بنتاً وأنها بخير , وبعد أن اطمئنت عليها تركتها مع زوجها و ذهبت لمكتبها فالمدير لم يسمح لها بأكثر من ثلاث ساعات اجازة .

عادت للعمل , جلست وراء مكتبها و انهمكت في الملفات المؤجلة أمامها و لكن صورة ذلك الرجل لم تفارقها , ولا صورة عينيه الدامعة .

في المساء مدعوّة هي للعشاء مع وفدٍ من دولةٍ مجاورة , يقول مديرها أن هذا الاتفاق سيجر للشركة أرباحا كثيرة وان عليها و باقي محامي الشركة الحضور , للإشراف على وضع الشروط المشتركة للعقد .

متعبٌ هذا المساء , ككلِّ مساءاتها .. ستذهب للعشاء و قد تعود للمنزل منهكة و لكنها ستنام وحيدةً ككلَِ ليلة و ستملأ وسادتها ببحور الأرقِ الفائض في داخلها , وقد تسمع موسيقى باخ المفضلة لديها فتزيد ألمها بدلا من أن تزيح التعب الساكن عقلها .


منذ سنواتٍ طويلة , بعد أن رحل عماد وترك الزهور البكر التي تفتحت في قلبها له تقارع الذبول .. وهي وحيدة رحيله أكسبها الجفاء في تعاملها مع الآخرين , كلهم صاروا في عينيها عماد ..كان هذا ما يجعل توددها لرجل ما أمرا مستحيلا , و مجرد تفكير أحدهم بالارتباط بها ضربا من الجنون

.ورغم أن الوحدة أرهقتها ونالت من أنوثتها الكثير , إلا أنها لا تستطيع إلا أن تكون هكذا , كتلة من لهب مخبأة تحت رماد القسوة .


رائحة الدفء في منزل أختها , صوت ضحكات أطفالها , هموم تأمين حاجياتهم , نكهة الحب في طعام أختها ..كل ذلك كان يملأ داخلها بالدمع ..

وعندما زارت صديقتها سماح آخر مرة بعد غياب طويل جدا , فاجأها ذاك التورد الذي ملأ وجهها لتعلم أنها حامل في الشهر الرابع ..هي الآن توقن بأنها تحتاج إلى رجل , و لكن كبرياءها , و عماد كانا دوما في المنتصف !

لم يوقظها من أفكارها تلك إلا صوت الأستاذ عرفان الذي أخبرها بانتهاء الدوام وبأنه سيمر مساءا ليأخذ الجميع بسيارته إلى العشاء في الساعة السابعة

.في المساء كانت تجلس هي إلى جانب الأستاذ عرفان كبير محامي الشركة , و بجانبها مديرة العلاقات العامة للشركة الصديقة

.تحدثت هي كثيرا , عن المشروع الجديد , وعن إمكانيات الفشل و أرباح النجاح .. و كانت عيناها تتوقفان كل مرة تجول بهما على مستمعيها عند ذاك الرجل , الذي تم تعريفه بأنه المدير المالي للشركة الصديقة .كان يستمع إليها وكأنه يحتضن شيئا ما , كانت تشعر بأنه قريب منها حدّ استراق النفس , ولكنها تابعت بجفاء كعادتها

.في نهاية اللقاء و بعد أن تم توقيع العقود , قال لها : هذا رقم هاتفي , أتمنى أن أراكِ قبل سفري بعد غد .ولم ينتظر ليسمع إجابتها , صافحها بحرارة , و انصرف مع الآخرين .

لم تدري ماذا تفعل بيدها المحترقة , و قررت أن ترمي بتلك الورقة اليتيمة و تخلد للنوم بمجرد وصولها البيت .

ولكنها لم تفعل , لم ترمي الورقة و لم تنم , و لم تتوقف عن التفكير .

في الصباح خرجت إلى العمل , بقي همسه عالقا في أذنها , وعند استراحة الظهيرة وجدت يدها ترفع سماعة الهاتف و تطلبه ...

وجاء صوته كالمطر : أهلا بكِ , هل لي بان أراك اليوم بعد انتهائك من ا لعمل ولم تدري سوى أنها قالت نعم .


وسافر هو بعد أن ترك في قلبها ذاك اللقاء و الكثير الكثير من الأمل و الحياة , وخاتم خطبة زيّن شعورها , سافر و وعدها بأنه سيعود بعد أسبوع بعد أن يتقدم بطلب إجازة زواج .

ولم يعد ,

مر أسبوع و آخر ..

و لم يعد ..

كانت هي توقن بأنه سيعود , و بأن غيابه ما هو إلا طعنة وقتٍ فقط في خاصرة أملها العائد للحياة من قبور الجفاء القاتل ..


كانت تشعر بان عماد رحل من عينيها للأبد , وانه لن يعود بزيّ رجلٍ أعاد النبض إلى أوردتها .ولكنه لم يفعل ....


بعد شهر كانت هي ترقد صامتة في مستشفى الأمراض العصبية , تطالع السقف المدوّر كخاتمها , و على يدها لفّت برقية حملت خبر موته .

استسقاء !





حين صافحت أدمعي يداكَ لأوّل مرّة ,
نبتت في وجهكِ ألفُ غابةٍ عذراء اللهفة , ناضجةُ الحنين ..
أدهشني ذاك النّور المتسلّل بينِ شفتيك و هي تلثمُ شفتيّ المبللتان بالدّمع , دون أن نشعر..
يومها تسرّب إلى دمي بعضٌ منك , أصبحتُ أراكَ في وجهي , في يدي , و في صدري ..
أتحسسُ شفاهي بحثاً عنك , و أطالعُ وجنتيّ , لربّما كان هناكُ بعضٌ من عطرك , يشمّه النّاس فيكتشفون أنّك مغروسٌ بي ..

/

أتذكرُ يومَ علّمتني المشي على حافّة الفرح ,
و وقفتَ أمامي فاتحاً ذراعيك , تحثّني على أن أقفُ و أحرّك قدميّ ,
لأركضُ نحوَ صدركَ المطلِّ من بينِ أزرارِ قميصكِ المفتوح قصداً ؟
لا زلتُ أذكرُ كيفَ كانت ابتسامتُك تمسكُ بكتفيّ ..
و أذكرُ انّي تغلّبتُ على حزني , و على كرسيِّ الأمنياتِ المقهورة ..
و ركضتُ نحوك و في عينيّ لهفةٌ لاحتضانك , و عتبٌ لأنّك كنتَ تبتعدُ خطوةً خطوةً إلى الوراء .
كنتَ تريدني أن أتقنَ الفرح , و كنتُ اريدُ فقط الوصولَ إلى غاباتِ صدرك , و الارتماء في أحضانِ أوردتك .

/
حينَ أشتاقك , تطالعني صورتكَ في كلِّ مكان , على الأرصفةِ المهجورة , في خزائنِ الوحدة , و فوق جسورِ الغربة ..
و في أعمقِ أعمقِ أنفاقِ الأحلامِ النّائمةِ كشريدٍ هدّهُ التّعبُ فاستسلمَ لهُ ..

/

أنتَ .. يا كُلّي ..
طفولتي المسروقة .. فرحي المنسيّ .. آهاتي .. أنوثتي المرميّة على أطراف الواقع ..
وطني المنفيّ , صوتُ الرّغبة , و أمنياتُ النور ..
أتراكَ لا تسمعُ صوتَ رغبتي بك , كلّما التقت يدانا و أطلتَ أنتَ المصافحةَ , و استسلمتُ أنا لرغبتكَ بتجاهل عاشقة ؟
أتراكَ لا تقرأُ انفعالاتي , كلّما التقت عيناكَ بشفتيّ و رحتُ تمسحُ النّدى عن جبينكَ المشتعلِ و يتلعثمُ السؤالُ على شفتيك : كيفَ أنتِ ؟
أو ربّما تراقبُ صدري , يرتعشُ بالنّبضِ كلّما , اقتربت منّي ووضعتَ يديك على خصري , بحجّة دعوتكَ لي للرّقص على أنغام بحيرة البجع..
كلّ تلكَ الحرائقِ الّتي تتركها وراءكَ كلّما التقينا , كلُّ الأنوثةِ المتفتحة من بين أصابعك ...
كلّها تحكيني لكَ يا سيّد الفرحِ .. أمنيةٌ لا تتقنُ إلّاك .. و أغنيةً لا تعزفُ إلا لحنك .

/

أتراكَ ستحتضنني في لقاءنا القادم , كما تمنيّتَ دوماً و لم تفعل ؟
أتراكَ تتركني أرسمُ خطوطَ لهفتي على صدرك , و أضعُ أصابعي فوق شفتيكَ ,
لأمنعكَ من الهربِ من ارتباككَ أمامي , بقصيدةٍ حفظتَها عن ظهرِ فرحٍ , لتقولها أمامي , كلّما خانتكَ يداك ؟
..
سأردّد يا فرحي ..

أبجديّاتِ اللّقاء , حتّى تأتي فتحتضنُ أوصالي و تكتبني , قصيدتَك الأخيرة .




الجمعة، 20 يونيو 2008

على أهبةِ رحيل :


ربّما كانت أغنية أو طفلةً تائهة أو رسالة , كتبتها على أجنحةِ غيمةٍ , حملت في فمها غصنَ زيتونٍ و ورقةً صغيرةَ , و أمنية :


إليك ..

أيّها الواقفُ هناك , بعيداً حيثُ كنتُ يوماً أركضُ باتّجاهِ الأملِ الضّائعِ المجهول ,

أيّها المارُّ بأنثى عابرةٍِ في صمتِ الجليد, في احتضاراتِ اللقاءاتِ الأولى و في سَكناتِ الجسدِ الواقفِ على شفا موتٍ محتّم .

أيّها الواقفُ بين حنجرتي و رئتي , ترقبُ صوتيَ المشدودَ بك , و تلامسُ شُعبي الهوائيةِ , كطفلةٍ حزينةٍ ضلّت طريقَها في يومٍ ماطرٍ , و استكانت إليك .

أيّها المتشكّل على هيئةِ أحلامي جميعاً , المُشرقُ على وجهي كصراخِ الفجر , كقطراتِ الخجلِ على جبينِ الأزمنةِ العذراء , كشراعِ النّورِ في رحيلِ الأصيل ..

هاكَ أنا , كشبحِ ورقةِ قصيدةٍ هاربة , كتبتَها للرّحيل و منحتَها أغصانَ الزّيتون و أفواهَ العشب .

التقطني هناكَ من فوقِ رمالِ ذاكَ السّجنِ الممتلئِ بأنفاسِ الخطيئةِ الأولى , يومَ كانَ الرّحيلُ آخر بوّاباتِ العبورِ إلى الوطن , ثمّ امنحني لخلايا الوقت , لارتعاشاتِ اللغة , لأرقِ الليالي الوحيدة , هبَني ضلعاً من صدرِ دميةٍ مكسورة , أو خيطاً من ستارة نافذةٍ قديمة , و اترك عنكَ ندمَ الطّفولةِ و تعبَ الحرفِ الأوّل و استغفارَ الأمطارِ الرّاحلة , و حزنكَ على رعشةِ القلمِ إذ يمارسُ عثراتهِ بينَ يدي .

دعني أمسكُ بأكمامِ معطفكَ و أتشبّثُ بأزرارِ صوتكَ , و ألثمُ ثغرَكَ ببراءةِ القُبلةِ الأولى و أجرّبُ أن ألامسَ جبهتكَ بأطرافِ وجهي , ثمّ ضعني هناكَ في جيبك , كقصاصةِ نصٍّ مقهورٍ ارتكبهُ قلمكَ ذاتَ وجع , أو اتركني على مكتبكَ كصورةٍ قديمةٍ أو كدفترٍ لا زالَ يلهجُ بأنفاسِ رغبتكَ الأولى , خبأني تحتَ قميصك , أو بالقربِ من وسادتك , لتمرّ الأزمنةُ على قلبي و نبضكَ يرقيني من تداعياتِ الألم .


لا تنسَ ان تقصّ على مقعدنا في الحديقةِ البعيدة , حكايةَ فرحنا القديم , و رغباتنا المبتورة , و غيابكَ عنّي مُذ تركتُ طفولتي على أرجوحتي , و تقمّصَّني بكاءُ الرّمالِ المتحرّكةِ تحتَ أقدامِ حلمي الأول .

لا تسأل نفسكَ أين كانت بدايتنا , نحنُ بدأنا على حافّةِ جبلٍ شاهقٍ و بدأنا نتسابقُ باكتشافِ مغاراتهِ السّرية و أنفاقه المجهولة , و كنتَ انت , ذاكَ الممسكُ بحبلِ الغياب , تشدّهُ إليكَ كلّما حانت فرصةُ لقائنا , و تقصُّ من أطرافهِ كلّ مرّةٍ فراقاً حتميّاً .

و إذا أتيتَ تسألني عن النّهاية , فسأردُّ عليكَ بصمتيَ الّذي تكرهه , بإشارةٍ مبلّلةٍ تشي لكَ بأنّ الغيمَ نالَ ذاتِ العقابِ الّذي نالتهُ الدّهشة , حينَ ارتطمّت بعمودِ الوفاءِ المكسور .

ربّما تدركُ أنّك منحتني الاغتراب و الوطن , ثمّ عالجتني ببعضِ أحلامٍِ لاجئة , و ملاجئَ حالمة بقطعةِ خبز !

أو ربّما تعلمُ أنّني حينَ انتهي من كتابةِ هذهِ الرّسالة , قد أكونُ اكتملتُ كحبلٍ وثيقٍ من الأرقِ و الجروحِ و الطعناتِ الباردة , و أنّني سأمضي إلى أمّي أدفنُ رأسي في صدرها و أقولُ بجهلِ الطّفولةِ الأوّل , سامحيني لأنّي قتلتُني .

ثمّ ألتفتُ إلى النّوارس الّتي تغطّي سماءَ قلبكَ و أتساءل :

ماذا يحدثُ لو اقتحمتُ الأميالَ الصّامتةَ بيننا و ارتكبتُ عن قصدٍ اثمَ استبدالِ الوطنِ برجلٍ , و اللجوءَ إلى صدرهِ كمنفى , ثمّ الرّحيلَ إلى عينيهِ , حتّى لو كانت ستودعُ آخرَ أمنياتي مثواها الأخير ؟

ماذا سيحدثُ لو أنّي تركتُ أنفاسي معلّقةً على أغصانِ صدفة , و استبدلتُ مسكّناتِ الألمِ الهشّة , برقصةٍ أخيرةٍ ستفهمها وحدك , و ستبتسمُ و أنتَ تراني سعيدةً و تبتلعَ غصّة فراقيَ الأخير ؟

لماذا أردّدُ الأخيرَ كلّما تذّكرتُ لقاءَنا الأوّل ؟

لماذا أقنعُ نفسي بأنّ شجاعةَ الرّحيلِ يجبُ أن تعادل شجاعةَ الحضورِ الأوّل ؟

و لماذا أقفُ على بوّابةِ المنفى و أمنحني عذاباً لا يُحتمل , لمجرّدّ أن أتابعَ كتابةَ أبجدّيّتي البدائيّة المكلومةَ بالفقد ؟

لا عليك ... الشّمسَ تقارعُ هضبةً ما , لتخرجَ من أعماقِ البحر .
و في منتصفِ النّهار تنتصبُ بشعاعٍ قاتلٍ لتُحرقَ كلّ قطراتِ الماء , الّتي قرّرت اعتزال سجون الغيم و الموتَ بسلام .
و في المساء تعودُ بذاتِ الحنينِ الأوّل لتعانقَ الأرضَ و تبكي و تمنحني وجعَ الليالي المقفرة .


كنتُ دائماً ذاكَ الشيء الّذي يبقى و ترحل عنهُ الأشياءُ الأخرى , وحدي كنتُ هناك , أداوي جرحَ الطّرقِ المتآكلة و أقيمُ شعائرَ ولادةِ أوردةٍ جديدة , تقتفي أثرَ العابرين .

سأحبّكَ رغم ذلك .. رغمَ أنّ الحبّ لم يعد ممكنا

رغمَ أن الأمنياتِ اختفت من أحلامِ الفقراء , و أنّ الأصدقاءَ تداولوا آخرَ عملاتِ الخيانة , و باركوا أنفسهم بها ..

سأحبّكَ , رغمَ أنّ اللغةَ كفرت بأيديهم و بأقلامهم , و بكلّ أبجديّةٍ استمرأت المغفرة .

سأحبكَ , رغمَ رئتي الصّدئة , و صوتيَ المخنوق , و أرقيَ المتنامي في عيني ..

سأحبّكَ و أنا معك , و لستُ معك , و أنتَ معي , و لستَ معك ..


و ....

/


آخرُ شيءٍ كنتُ أردّدهُ قبلَ الهذيانِ بصوتٍ و شهقتين ...

كنتُ يوماً , جريدتَك و معطفكَ و فنجان قهوتك .. و ذاكرتك !

الاثنين، 9 يونيو 2008

[ بوصلةٌ لا تُشيرُ إليك ! ]

[ 1 ]


سأغمضُ رمشي الأخيرَ فوقَ دمعك , و لن أقولَ أحبّكَ بعدَ الشّهقةِ الأخيرة ..


أحبّك , لم أعد قادرةً على قولها بذاتِ اللّهفةِ الأولى , بذاتِ الهواءِ أقبضهُ في رئتيّ , و لا أودعهُ إلا ثغرَ يديك .


أحبّكَ , أشعرُ انها تستنزفُ النّارَ المضطرمةَ في جليدِ غربتي ..


أشعرُ أنّها تقتاتُ من حطبِ العمرِ المخذولِ الملقى على قارعةِ أنايَ المذبوحةِ في عينِ الشّمس ..


أشعرُ كاّنّها تلاحقني , كإبرِ مسكّناتِ الوجعِ المثخنةِ ألماً بي , المرميّةَ في دمي , كبقايا مطرٍ على حافّةِ ساقيةٍ منسيّة ..


كـ مقصلةٍ , تقطعُ عنقَ رغبتي بالحياةِ إلّا معك , و ترمي برأسِ الفرحِ على ناصيةِ النّسيانِ حتّى تعود ..

:
[ 3 ]



رجلٌ وطن ..

أمارسُ فيكَ حريّتي علناً , و سرّاً أحتضنُ كلَّ ذرّةٍ فيكَ حدّ التوّحد ..


أرتقي بحركَ و أقارعُ الموجَ الهائجَ في صدرك ,


و حين أعودُ لمرافئي السريّة بكَ / معكَ ,

تركضُ اناملي تطلب الغفرانَ من أضلاعك ..

:
[ 4]


رجلٌ وطن ..

كأغاني الانتماء على أوتارِ الأمنيات..


كفرحِ الأطفالِ في ليالٍ تسبقُ العيدَ بغفوةٍ و بعضِ ابتسامة ..

كموقدٍ يونانيٍّ يراقصُ ظلالَ أحطابِ طفولتي في مساءاتِ الهالِ و الزعفران ..

كشجرةِ سنديان شاهقةِ الحزن , لا تمارسُ البكاءَ سرّا , و لا تدندنُ بأوراقها أنغامَ الفقد الموجعة .

:

[ 5 ]



لن أقول أحبّكَ ..

كي لا تغتسلَ نسماتُ فجري بحلمِ لقائي بك ..

كي لا يتحقّقَ حلمُ الرّبيعِ بصيفٍ يوقدُ الذّاكرةَ بكَ ..


ليبقى حبّنا , كثمرةٍ غير ناضجة , تستقبلُ قُبلاتِ الشّمسِ , بعيدةً عن أعين العابرين ..

لأبقى أنا , كطفلاتِ الحكايا الهاربة , و تبقى كأميرِ الرّحلاتِ المرصودةِ لأحلامِ الفقراء ..

ليبقى اتفاقنا كانتشاءِ النّاي الحزين في حنجرةِ راعٍ

و يصيرَ اختلافنا كأنغامَ قيثارةٍ تداعبُ خصورَ الدّهشةِ في أعينهم الموسومةِ بالأرق ..
:

[ 6 ]





رجلٌ محبرة :

كقطراتِ تلعثمِ الحرفِ الأوّل على بياضِ أوراقِ البدايات ..



كبعثرةِ الحروفِ الهائمةِ بين سطورِ العشقِ الأوّل

كشهيّةِ ليلٍ للنّومِ في أحضانِ كتاب ذكرياتِ الرّعشةِ الأولى

كسحابةٍ تمضي في سراديبِ قوسِ قزحٍ , تمحو لعناتِ الماضي الغابرة و ظلماتِ الفرحِ الكاذب ..

:

[7 ]




لن أقولَ أحبكَ ..


كي تنتهي الأبجديّةُ عندَ كلماتكَ ما قبلَ الرّحيلِ بوجع ..

كي تقفَ حروفُ الوداعِ غصّة في حلقِ الأزمنةِ الصّامتة

و تراقبَ اللّغةُ مولدَ فرحي بين أصابعكَ , كالحرفِ التّاسع و العشرين بعدَ الفَرَح .

:


[ 8 ]



رجلٌ غيمة :

على بعدُ نَفسٍ واحدٍ من القلب , هاطلٌ برتابةِ المطر ..

بالقربِ من العينِ , وامضٌ كانتفاضةِ البرق ..

راعدٌ كصدىً يردّدُ في مسامعي :


ألهذا ننتنافرُ إذا التقينا , و نتجاذبُ حينَ الفراق ؟

:

[ 9 ]


لن أقولَ أحبّكَ ,

حتّى تحترقَ شواطئُ الانتظارِ بعتمةِ صدري

حتّى يخترقَ ضوءُ النّسيانِ مساماتِ الذّاكرةِ في صقيع أمنياتي ..

حتّى تتلاشى ريشاتُ عصافيرِ الشّوقِ على أشجارِ سمعي دائمةِ الخضرةِ بصوتك ..

حتّى يصبحَ الوطنُ : وطناً .\أجثو على ترابهِ فأقبّلَ وجهَ من رحل , و أحفظَ وجهكَ كآخرِ ذاكرةٍ في صدري ..

:



[ 10 ]


ربّما سأقولُ :

أحبّكَ ..

الخميس، 5 يونيو 2008

طاروا التّماسيح !






في احدى مسلسلات الكوميديا الرّماديّة , تبدأ الشّارة بـ طاروا التّماسيح ..

ومعلومكم أن التّمساح حيوان بر/ مائي لا يجيد الطّيران , و قدرته على الطّيران محصورة فقط في عقول البعض الذين يجيدون تقشير لحاء الشّجر و صنع ملابسهم منه .

و قد أثبتت الدراسات اللّاعلمية , أنّ التّمساح كائنٌ قادرٌ على ان يكون أفعى , أو ربّما ضفدعاً , أو حتّى حمامة !

العجيب فقط في كون التّمساح أحد أكثر الحيوانات قدرةً على البكاء !


وبعيدا عن تلك المقدمة أعلاه و التي ربّما نتجت عن تأثّري بشخصيّات المسلسل التي نجح أحدها في تطوير نوعٍ من البطيخ على شكل مكعّب , بدلا من الشكل الاعتيادي للبطيخ الأحمر و ذلك عن طريق وضع البطيخة في علبة صغيرة على شكل مكعب , و بهذه الطريقة التحكّم في مسار نموّ البطيخة حتّى تصبح ناضجة مكعّبة .. و هذه الطريقة بحدّ ذاتها , سياسة و استراتيجية لا تخلو من النجاح في السيطرة على الأمور من بدايتها , حتى لو كان ذلك عن طريق حشرها في مكعّب صغيرٍ ,أصغر من أرنبة الأنف !

وحتّى لا أشطح كثيراً عن ما أردتُ الكتابة عنه , سأقترب أكثر إلى بعض المفاهيم التي رسخّها في ذهني اطلاعي على سير أحداث و تطورات العلاقات الحقلية بين الأقطاب المتغيّرة في دورة التبادل الثقافي المشحون .

سنتفق على أن الانسان مجموعة من الأفكار , الخبرات , الثقافات المبنية على الاطلاع و الاحتكاك بالمجتمع و عناصره على اختلاف ألوانها و أشكالها و مستوياتها , ثمّ لننتقل إلى معالجة الانسان لتلك المعلومات المجمّعة واخراجها بعد ذلك في قالب الشّخصيّة بمختلف جوانبها .

هذا الإخراج تحكمه حتماً ظروف اقتصادية واجتماعية و عاطفية متعدّدة , ليخرج لنا في النهاية انسان متكامل من حيث الفكر و العاطفة .

اذن فإن اتحاد الانسان بمن حوله , هو ضربٌ من المستحيل , فالتوافق التام بالعناصر المذكورة أعلاه بين شخص و آخر لا تتجاوز نسبته , نسبة امكانية نمو بطيخة مكعبة !

التعامل مع هذا الاختلاف , يكشف الاتزان في الشّخصيّة , الاتزان في العناصر المكونة لشخصيّة الانسان , بدون أن نهمل طبعاً الحالة النفسيّة التي تحكمه في اوقات مختلفة .

وعوداً على بدء , فإن البطيخة المحجوزة في ذلك المكعب الصغير , لن تنمو طالما نحن لم نغيّر حجم ذلك المكعب تبعاً لمراحل نموّها , أو ربّما انفجر المكعب بما فيه لتنمو البطيخة - كردّ فعل - بلا خطّ سيرٍ محدد و بشكل مشتت قد يصل إلى التطرف !

أحد الاقتراحات التي خطرت بذهني , وضع البطيخة في مكعّب مطاطي , يتمدد بتغير حجمها , ولكنّي وصلت في النهاية إلى كون ذلك الحل غير مجدٍ نهائياً , لأن ذلك سيؤدي إلى نمو البطيخة العشوائي و انهدام الهدف من التكعيب !

فواصل :

- هناك بعض الأشخاص الذين لا يزالوا مصرّين على اقناعنا برؤيتهم للتماسيح الطائرة , بل وربّما باصطيادهم لها أيضاً و صنع المعاطف الملونة من جلودهم , ثم تبرعهم بها لأولئك الضعفاء المساكين الغير قادرين على تكعيب البطيخ !

- تقنيات العلم تطوّرت و النّاس أصبحت قادرة على استيعاب عدم جدوى شرب الماء ولو كان يبدو عليه النظافة , فربما اجتمعت في داخله بكتيريا قاتلة !

- البحيرات , المليئة بالماء الرائق , المحاطة بمزارع البطيخ المكعب , لم تعد قادرة على اقناعنا بعدم وجود التماسيح الطائرة فيها و أنّ سهام أولئكَ , الذين آثروا الانشغال باصطيادها على القيام بعملٍ مفيدٍ لنظافة البيئة , بعيدةٌ عمّن يبحثُ بالقرب منها عن بطيخة لم تخضع للتهجين القسري .

همسة :

ما كُتبَ اعلاه , كُتبَ باللّغة العربيّة الفصحى , و لا علاقة لأيِّ لغاتٍ أخرى به.

عزفٌ ماطرٌ على قيثارةٍ دمشقيّة !






و لأنّي أحبّكِ ...

سأكتب اليوم بأحرفٍ من عوسج ..

وسأبكي بدموع من صهيل ..

وسأرقص على شطآن وجعكِ .. كما لم أفعل من قبل !!

...

لأنّي أحبّكِ ..

سأركضُ بين تضاريس وجهك المتناثرة كأزقّةٍ حفرها الزمن

وشوهّها العطّارون في محاولة تجميل !

سأركض منها وإليها ..

وعبثا سأحاول .. أن أجدكِ فيكِ !


....

سأنصب أرجوحتي لتتدلى بين شجرتي اللّيمون في باحة دارنا

كيدان تتضرّعان للسّماء وترجوان عفواً يضمخّكِ بـ طهر !

وسأفتح صنبور ماء نافورة بيتنا القديم

ليصبَّ في عينيكِ زلالاً جادت به واعتاد الرجوع منها إليها !

سأقطف كلّ الياسمينات التي سأجدها تتراقص على كتفيكِ كأغنية

وسأصنع منها اكليلاً يتوّج رأسكِ و يؤكّد طهركِ من أعلى قممكِ إلى أقدمِ تعاريجك !

سأخترع فصلاً خامساً للعشق يكون اسمه أنتِ

ويكون للمحبين نبراساً يضيء لهم سعادتهم .... بـ نورك !

....

سأختصر كلَّ كلمات اللّغة لتصبح اللّغة أنتِ ..

والطّهر أنتِ ..

وهم المتمسّحون بأذيال ثوبكِ علّهم ينالون بعضاً من بياضكِ !

المتمرغون بآثاركِ عساهم يلبسون المجد ثوباً فضفاضاً ليس على قياس أمجادهم الواهية !

أرجوكِ دعي أشجار النّارنج تمارس آخر صلواتها بـ خشوع قبل أن يستبدلوها .. بـ حضارة !

واتركي عطرك الطّاهر يلّف صباحات الغيوم كـ ثوبٍ أبيض قبل أن يدنّسوه بأنفاسهم الرّمادية !

...

ثمّ ..

دعيهم ..

دعيهم يمارسون كل ما علق في أرواحهم من سواد ..

كل ما تكاثف في عقولهم من ضجيج ..

دعي أيديهم تتلطّخ بدمائهم المسفوكة كـ حلم بنهاية كابوس

دعيهم لضوضاءهم ...

سيرحلون حتماً ..

سيرحلون وتبقين ...

شامخةً كـ جبلٍ يرنو إلى سهلٍ بـ كبرياء

هادرةً كـ فيضانٍ يهدم بيوت الكذب

قريبةً كـ شهيقٍ لحظةَ تنفّسِ صُبح

بعيدةً كـ مجرّةٍ تحتضن النجوم وتمارس الشّهب

دافئةً كـ لغةٍ لحظة ولادة قصيدة

نقيةً كدمعة طفولةٍ ذات احتياج!

...

سيرحلون وتبقين

أمّ الياسمين

وموطن الأفئدة

و قبلة الأرواح !


...


غيمة تهطل دمشقاً !


01/10/2007

و احمّرَّ الحجرُ خَجِلاً !






سأل أمّه ذات يوم : لماذا تتلوّن السّماء بالأحمر كلّ مساء ؟

فأجابته : إنّه خجلُ الشّمس من القمر .

ولكنّ رأسَه الصّغير الممتلئ بالأسئلة ما كان ليكفّ :

- ولماذا يحمّر التفاح في بيّارتنا ؟

- خجلاً من الشّمس .

- وهل تشعرُ كلّ الأشياء بالخجل مثلنا ؟

انحنت أمّه عليه لتطبع قبلتها التي اعتادت بها الإجابة عن أسئلته العقيمة , وتابعت حياكة كنزته الزرقاء المزيّنة بخطوط حمراء خجولة .

كان خالد كلّ يوم يحمل سلّة الطّعام التي تعدّها زوجة عمّه ويحملها إليه في مخبأه في الجبل , كان هوا لولد الوحيد الذي يستطيع فعل ذلك , هكذا قال عمّه يومَ اشتدّ الحصار على قريتهم الصّغيرة وقررّ أن يقود الجماعات المُقاتلة في الجبال .
كان خالد لا يمكن أن يُثير الشَّكّ في نفوس أولئك الذّئاب - كما كان يطلق عليهم أبوه - لأنه يبدو أصغر بكثيرٍ من سنّه فقد كان يُعاني من قصر النّمو . إضافة إلى أنّه ولدٌ ذكيّ جداً فقد كان يعبر ثكناتهم المزروعة على طول الطريق المؤدي خارج القرية دون أن يفكّر أحدهم أن يسأله شيئاً ما .

يوم الجمعة اعتاد أن يصلّي في المسجد مع والده ثم يحفظ بعض الكلمات التي يقولها له ويذهب بها مع سلّة الطعام إلى عمّه .

في ذلك اليوم قال له أبوه كلماتٍ غريبة : قل لعمّك " التفّاح أصبح ناضجاً وحان موعد قطافه " رغم أنّ الربيع كان في بدايته .

عندما وصلَ للجبل , خرجَ عمّه ليأخذ منه ما يحمل . ولكنّه اكتشف على الجهة الاخرى من الجبل قواتاً من العدو تحاصرهم ولم يبقَ لديهم سوى الفرار باتجاه القرية , كان همّه الوحيد خالد .. حملّه وركضَ به وعندَ مشارف القرية اشتبكوا مع قوة جديدة وخرج اهل القرية للمساعدة .. وتعالت أصوات النار ..

وسقطَ خالد مضرّجاً بدمه الذي سال على الحجارة.. وتركضُ أمّه نحوه لتحتضن أنفاسَه الاخيرة على صدرها ..

فيقول : أرأيتِ يا أمّي , حتّى الحجر احمّر خجلاً من دمي !

قمّة .. بلا قِمَم !!


- في آذار المُقبل , تُعقد القمة العربية في دمشق

- بعض حكّام الدّول يقاطعون القمّة .

- الجامعة العربية تؤكّد على انعقاد القمّة في موعدها المحدد

- آمال وخيبات , تتحمّلها القمة العربية في دمشق و هي لا تزال في رحم التنفيذ .


- هذا ما سوف يطالعك لو قرات أو تابعت او قررت أن تجازف بعقلك وتفتح الشاشة الصغيرة أو تقرا الأخبار .

القمّة العربيّة , بدأت عام 1946م , حيث كانت قضيّتها الأساسيّة , فلسطين السليبة , هذا العام , ستبقى القضيّة الفلسطينية على مائدة القمّة وذاكَ من مبدأ الثبات على الموقف .

وإذا تتبعّنا تاريخ القمم العربية و انجازاتها , سواءاً كانت طارئة او غير طارئة , سنجد أن الكثير من القرارات العربيّة والشجب والتأييد , احتلت مكانها الأكبر في مزبلة التاريخ .

- العرب ببساطة بحاجة إلى اعادة تأهيل , إلى دورة تدريبية شاقّة في العمل الجماعي المشترك .
شيءٌ ما يجعلهم لا يتفقّون حتى على محاولة الاتفاق .

- اصرار الجامعة العربية على عقد القمة في موعدها ومكانها المحددين , و الاصرار المقابل على حضورها أو عدم حضورها , يُشبه أسلوب الأطفال الذين يصرّ كلٌّ منهم على البدءِ بلعبتِه التي اقترحها هو .

- الحكم على القمّة بالفشل من قبل أن تبدأ , فشلٌ آخر ..

- المشكلة ببساطة لا تكمن في قمّة انعقدت أو لا , أو في دولةٍ حضرت أو لم تفعل , أو تسلّمت دعوة أو لا . المشكلة ببساطة أن لا حبل للحوار , لا نقاط مشتركة تجمع الأطراف رغم أنها تجمعها .

ولحلّ هذه المعادلة عليكَ باللجوء إلى كُتب التارخ العربي منذ النّكبة وأن لا تدع لصفحة الـ 1973 مجالاً لتصيبك ببعضِ الأمل .

- الكثيرون يعقدون الأمل على القمّة في حلّ الأزمة الداخلية في لبنان , و الأزمةا لفلسطينية , والعراقية والسودانية والجزائرية والمغربية .. و الكثيرون يرون في المقابل أنها فتيلٌ لاشعال خلافاتٍ جديدة بين أقطابٍ أخرى .

- ما يُخيفني هو شيءٌ واحدٌ فقط , أن ياتي آذار ويحمل لنا ربيعاً على شكلِ أملٍ عربيّ جديد , بموقفٍ مشترك أكثر فعاليّة , فنصاب بالسّكتة القلبيّة من فرط السّعادة.

أمّا إذا حملَ خيبةً , فلن نُصاب حتّى بالزّكام , لأنه نملك المناعة والحصانة ( كحالِ النّواب العرب )!!








بتاريخ 29.02.2008

ضاد





لا تزالُ الكتابةُ إليكَ , مغامرةً مُدهشَة ,

تحمِلني فوقَ احتمالاتِ الموتْ و تطيرُ بي عبرَ لعناتِ الظّلام الشّاردِ ,ثم ترميني فوقَ بحرٍ من الرّمالِ المتحرّكة ,

لأدورَ وأدورَ وأنتهي فوقَ هَرمِ خيباتي , بدونِك / مَعَك .

لا تزالُ الكتابةُ إليكَ ربيعاً , ربيعاً ,

مطراً مطراً ,

وعنفوانَ سحابةٍ آثرتِ الرَّحيلَ حيثُ شتاءاتُ الدّمْع ذاتِ الدّم.

لا تزالُ تعاريجُ الورق الممدّدة على طاولةِ الذّاكرة , تَشكُو بياضَها المُمتلئَ بكَ , و تمارسُ الفقدَ أمامَ محابرِ الفرحِ المُستعار ..

لا تزالُ خيوط أولّ الفجر الرماديّة تتسلّل إلى حجرات قلبي المُظلمة , لتكشفَ وجه العشقِ المتنكّرِ بك ,

وتعيدَ للمطر نشوتَه الاولى باحتضانِ الأرض .

.
.

وأسألُ نفسي : لماذا لا أحبّك ؟

فتجيني شهقاتُك المعلّقَةُ كدمعةٍ على وجهِ الغياب ,

يُجيبني الحزنُ المعتنقُ تعاليمَ الدم ..

تُجيبني ألغامُ الدّهشة المتفجّرةُ في سكينتي و بُعدِك ..

تجيبُني تلكَ الطّفلةُ المصلوبةُ في داخلي , الـ مطعونَة الفرح , الـ مسلوبَة الذّاكرة , الـ مضرّجةَ بالخُذلان ..

أن لا غيمَ بلا مَطَرْ .

.
.
.

وأعودُ إلى أعماقِ الجُرح , هناكُ حيثُ اعتلى المُرجانُ , ايقاعَ نبْضي بك ..

لأُعلِّمَ قلبي الطّاعةَ العمياءَ للحُزن ..

وأَعلِّمَ أنفَاسي رَتابةَ الوقتِ و انْتظامَ الظّلام ..

لأعلّم نبضيَ الجامحَ , حرفةَ الانتماءِ للنّسيان بدلاً عن المَطر .

ثم أرقبُ العشبَ الأسودَ يسدّ مساماتي , فتتنفّس الأحجارُ من حولي .

.
.
.

مُستنزّفةُ السّعادةِ .. أنا بِك .

مُترعةٌ بالفقد , أتقمّصُ أكفانَ ذاكرتِنا معاً , و أنسحبُ فوق بحيرةِ حبّنا المتجمّدة , لأرقصَ معك / بك / بدونك

وتتكسّر تحتَ أقدامي , قطراتُ المطر , فتغرقُ أشلائي , هُناك حيثُ صنعتَ من زهرِ اللّيمونِ نعشاً أخيراً للحب .

حينَها لا أدْري أينَ ابتدأَ دَمي وأينَ انتَهى شِريانكْ .

ولا أدري هَل سبقَكَ برقُ لهفَتي إليكْ , أمْ أنّ صدى رعدِ غيابِك , أصمّ البصرَ فلم يعد يُدركُ سواك .

.
.
.

تعبتُ من تمثيلِ دور العاشقةِ التي لا تتعب ..

أرهقني دورُ التّضحيةِ و انتماءاتُ الوفاء ..

لا أريدُ لجنوني بكَ أن يبقى ممدّداً في مشرحة ,

ينتظر رحمتَك به , لتستخرجه من جثّة المسافاتِ المرصّعةِ بالوطن ..

ضحكاتنا القسريّةُ و بكاءاتنا الملّونة , و أفراحُنا المبتورة ,

وأرواحنا الضّالّةُ لم تعد تُنجبُ الدّهشَة ..

أصبحَت تتعالى في أهرامٍ خيباتنا , وتتوالى كاحتضاراتِ الفرح في غيابِنا الممزوجِ بطعمِ المكابرةِ المُصطنعة .

موتي لن يتكرّر , و السّحاباتُ الباكيةُ فوقَ صدرك , كَفَرت بالهجرة الموعودةِ إلى مواطن الدفِْ ..

ما عادَ يعنيني أن أكونَ انت , تكفيني كلُّ تلك الخرائب التي خلّفها الغيابُ في داخلي ..

.
.
.

دعني احتضنُ الوطنَ وأبكي ,

دعني ألملم دموعي المضرّجة بالفقد , لأخيطَ بها جُرحي المكابر ..

وأغمضَ عينيّ لأحلمَ بك ,

كصوتِ البحرِ في حقولِ الهذيان

أعطني وردةً .. ولا تُعطني خُبزاً !





غالباً ما تبدأ العلاقات , بكميةٍ من العسل يغدقه كلّ على الآخر , فلا يرى سوى حلاوة المذاق ولا يتذوق إلا الجمال .

ثم تبدأ بعد ذلك المشاكل والعيوب بالظهور , ويبدأ كلّ في التفتيش عن سيئات الآخر , وتبدأ العلاقة بالانهيار لتنتهي إما بالانفصال , أو بالانفصال الروحي , والثاني أصعب و أشدّ وطئاً .

في العلاقات الزّوجية , يفقد الكثير من الرجال مهاراتهم العاطفية بعد الزواج , فتشغلهم الحياة عن الحفاظ على ذاك الخيط الذي يصلهم بروح المرأة , فيبتعدون عن الكلام الجميل والغزل ومحاولات الاقتراب من قلب الزوجة , وهنا يحضرني مشهدٌ من أحد الأفلام العربية , حيث تقول لزوجها أريد وردة , فيضحك , ويقول : الخبز أهم من الورد , الورد ترف العشّاق !

المرأة كائن عاطفي , تحتاج إلى تلك اللمسات الحانية التي يقوم بها الرجل من وقتٍ لآخر , لتحتفظ بشعورها بأنها الحبيبة التي يحتويها فتحتويه , هي أمورٌ صغيرةٌ , قد يصفها البعض بالتفاهة ولكنّها عظيمةٌ في نظر الأنثى , المشحونة بالمشاعر , والتي بتلك المشاعر فقط , تحتوي قلب الرجل وتأسر روحه .

محورٌ آخر لما أردتُ هنا ...هو الحبّ الذّي يأتي بالعشرة

فلا شكّ أن المشاعر تتطور وتتقارب , وربما تتوحد , ولكن يجب هنا التفريق بين الحبّ والاعتياد , فربما كان من الصّعب الاستغناء عن شيء اعتدت عليه , ولكنه من المستحيل أن تتخلى عن شيءٍ تحبّه .

قد يجلب الاعتياد الحبّ , ولكن الحبّ إذا جلبَ الاعتياد , فعلى العلاقةِ السّلام .. ومن هنا نأتي مجدّدا لفكرة التجديد في العلاقة , رشّات السّكر تلك التي يقوم بها الطرفان في العلاقات الزوجية , تقوم باعادة الربيع لشتاء الغياب الرّوحي عن الآخر .


المسألة باختصار , هي الشّعور بالآخر , فهم معنى كلمة الآخر ,ووضع التعريف الصّحيح لها على قائمة أولوياتنا .

ختاماً :

همسة لمساءٍ ملأني بوجعهم : انظروا للعلاقات من جانب الآخر , ستبدو بشكلٍ مغايرٍ حتماً !

تحت الصّفر !








وماذا لو كنّا التقينا في نفسِ الأزمِنة ؟

هل كنّا سنتبادلُ الفَقد ؟ أم كنّا سَنرزَحُ تحتَ قيدِ المحبَّةِ الإجباريّةِ الّذي يُطوّقُ عنقَ تفكيرنا بالحريّة ؟

هناكَ شيءٌ واحدٌ سيُجبرنا على الاستمرارِ في الحُبّ ,
وهو تلك النّزعة المتطرّفة في داخلنا للوصولِ إلى الشّمس , حتّى لو كان الثّمنُ رائحةَ جلودِنا المُحترقةِ أمامَ جبروتِ ضِياءِها !

وهناكَ شيئانِ سيجعلانِنا نمشي بمحاذاةِ حائطِ التّردد خِشيَةَ أن تنهدِمَ أعمدةُ النّور المُسندة إليه ,
هذا الشّيئان هُما الخوف من أن نُضاف إلى قائمةِ الأحرارِ السّوداء , و نظرةُ ذاكَ العصفور السّجين داخلَ حُنجرة !

وهناكَ ثلاثةُ أشياءٍ ستحذو بنا حذوَ زوربا , لنرقصَ ألماً و نضربَ بأرواحِنا الأرض علّها تتحطّم فتفقدَ الاحساس بالغربة ,
لذّة الغياب , ورداءُ بائعة الكبريت الممزّق , و ايمانُنا بحتميّة الفراق .

وثمّة أربعةُ أشياءٍ تُجبرنا على التّيبّس كلّما فُتحت بوابّة العبور أمام أحدنا إلى زمنِ الآخر ,
هاجسُ الوطن , والقمعُ السّري , وباكورةُ القمحِ في بيادرِ الرّحيل و عُقدة اللون الأسود .

وثمّة خمسة أشياء تجعلنا نتجاهل ضعفنا الواردَ أعلاه لنركضَ خلفَ لهفتنا المَسروقة ولا نعودَ إلّا بها حتّى لو برفقة أكياسٍ من الحبال الصّوتية المقطوعة ,
الجراح الّتي لا تَندمل , والأطفالُ المصلوبينَ على أعمدةِ الفرح , وأحلامُنا المدهوسَة , و كآبةُ اللّون الابيض المُفرطِ في النّقاء , وجواز سفرنا المزوّر .

فإذا كان ذلك كافياً ليكشفَ لنا ذاك السرَّ الغامض المتعلق في عيني شوقنا المُحتضَرِ كلّ لقاء ,
فقد نمارسُ تبادلَ الأدوار , فيحلّ أحدنا مكانَ الآخر , ليجرّب وصفتَه السّرية للألم .

وإن لم يَكن كافياً فما علينا سوى الاعلان عن مَوتِنا كوظيفةٍ شاغرةٍ قد يملأها أحدٌ ما بعد رحيلنا الحقيقي الممهورِ بختمِ الضّوء .