الأربعاء، 3 ديسمبر 2008

هكذا .. يُصبحُ موتي مُدهشاً !

-1-
.
.
الأوطان رحلت يا صديقي , لم يعد هناكَ متّسعٌ من الأمل , عقارب الحُزن تُشير إلى تمامِ الفقد , وحدها أقدام حبّك تسير في الإتجّاهِ المُعاكسِ للأوردة !

ضحكتكُ , أوراقكَ , و قلمكَ الأسود الذي يُشبهني , يُسبغان عليَّ الهدوء , فأشعرُ أنّ ذاك المقترب منّي , لن يأخذَ روحي العالقَةَ بكَ إلا لتتقمّص زهرة الاوركيد التّي تحبّ .

أغلق عينيك , ودع أهدابَك تلامسُ الشّجن النّازف على وجهي , ودع نبضَ يديك يلفّ أشباح خاصرتي .

أتذكرُ الياسمينة المتعربشة على كتف بيتنا ؟

كانت تجمعُ دموعَ انتظاري لك تحتُها , وتُخبئّها ياسميناتٍ , لتتساقط فوقك .

أتذكر العصفور الذي أهديتني إياه يومَ ميلادي , وأطلقته أنا في اليوم التّالي ؟

كنتُ أعلم أنّك ستحزن , ولكن خوفي على حريّته كان يفوق رغبتي في احتضانه .


البكاءُ اللّيلة سينقض كل عهود الحزن التي مضاها - مُكرهاً - على أوراقِ غضبك, لن ينتحب الأرق الليلة يا حبيبي , فصوتُ موسيقى الفرح يتعالى .

دعنا نرقص , واملأ روحي بأبجديّتك , هذه اللّيلة ستكونُ الأجمل , الأكثر وجعَاً .. والأدقّ رحيلاً .

أترى كيف بدأَت السّماء تُمطر , أتسمعُ صوتَ عناق السُّحب , وصوتَ خطواتِ المطر على الذّراتِ المُتراقصة في حديقتنا , أليسَ ذلك مُدهشَاً ؟

الدّهشة .. ؟

الدّهشة .. كانت دوماً صديقةُ حُزني معك ,رفيقة دربَ عشقي لّك , والشّاهدَ الأخير على أملي بك .

عندما سأغلق عينيّ , لا تنسَ أن تقرأ لي قصائدكَ , وأن تجدلَ شعري بأوراقك , وأن تدع عينيك تتلو السّكينة على قلبي , بينما يكلّل صوتُكَ عُنقي بالرّحمة .

هكذا فقط .. يصبح موتي مُدهشاً .
/
-2-
.
.
لماذا حينَ فتحتُ عينيَّ للمرّةِ ما بعدَ الأخيرةِ , لم أجد أصابعكَ تلتفُّ حولَ ضفائري و تحتضنُ خصلاتِ شعري ؟

هل كنتَ تكذبُ عليَّ حينَ قلتَ أنّ للموتِ رائحةَ الكرزِ و لونَ التّوتِ , و صوتَ البلابلِ الحزينة ؟

أم أنّ فرحي بقدرتي على الغيابِ عنكَ للمرّةِ ما قبلَ الأولى و أنتَ تبتسم , جعلَني أعجّلُ باغماضةِ قلبي و ما حانَ وقتُ الموتِ بعد ؟

كنتُ أستمعُ لنبضِ الرّعشةِ في يديك , كانَ اسمي يسري كتيّارِ أرقٍ يعبرُ مساماتكَ فتُمطرُ ماءاً بطعمِ الفرح ..

و كنتَ ترقبُ شفاهي علّها تُخبركَ بسرِّ صندوقِ الحياةِ الّذي طالما فتّشتَّ عنهُ في جزر عشقي لك ..

أتعلم ؟

أشعرُ أنّني لم أعد قادرةً على الموت , بعضٌ من نبضِ الانتظارِ ألهمَ جسدي دماً يعبقُ برائحةِ الأرضِ في نيسان ..

أشعرُ أنّ وردةً ستنبتُ في كفّي ,

و هنا عصفورٌ ينقرُ زجاجَ صدري و يخرج بجناحيهِ الصّغيرتين و بهِ رغبةُ الطّيرانِ حتّى عين الشّمس ..

و هناكَ زهرةُ نيلوفر تشقُّ عتمةَ وجهي و تتطاول بزهوٍّ فوقَ سطحِ الشّحوبِ , ثمّ تفتحُ بتلاتها و تحتضنُ طيرَ الفرحِ من صدري , و تغوصُ بهِ بسكينةٍ في أعماقِ الحلم ..

أتراكَ كنتَ تدركُ أنَّ رحيلي سيغمضُ عينيكَ حتّى عن يديّ إذ تشدُّان على معصمكَ و تنقلانِ بعضاً من آخر قوايَ المنهكةِ إليك ؟

أو كنتَ تعلمُ أنَّ رئتي المشحونة بدخّان الغياب , و شعبي الهوائية المتناهية في الاختناق , ستستطيع دفعَ وسادةِ الوجعِ عن وجهي و استنشاقَ صوتك من جديد ؟


لا زلتُ أحاولُ بذاتِ الإصرارِ أن أستقيمَ كوجعي و أن أجهلَ وجهي مقابلاً لكَ , موازياً لمرآةِ الضّوءِ إذ تعكسُ ذاكرتَك بي ,

لا زلتُ أحاولُ استيعابَ حلكةِ البياضِ من حولي , و هسيسَ البكاءِ في أذني , و صقيعَ الوحشةِ يغتالُ أطرافي و أنتَ معي !

لا زلتُ ....

و أستمعُ إلى تنهيداتِ التّرابِ المنهال على لقائي بك , أسمعُ انهمارَ المطرِ على أوراقنا و صوتَ اغتياله لحروفنا و انثيالهِ كسيلٍ حزينٍ في ذاكرتنا المشتركة ,
يجرفُ كلَّ طفلٍ صغيرٍ ولدَ في لهفتنا و رعتُهُ أيدي لقاءاتنا ..

أستمعُ و لا أرى .. لم أعد أرى , مُنذُ أن قبَّلتَ عينيَّ بأصابعك .. و كلّلتَ عنقي بصوتكَ ..

و أصبَحَ موتي مُدهشاً ..