الاثنين، 11 أغسطس 2008

محمود درويش , ويكتملُ الغياب ..





" و زرعتُ أزهاري

في تربةٍ صمّاءَ عاريةٍ

بلا غيمٍ ,, و أمطارِ

فترقرقت لما نذرتُ لها

جرحاً بكى برموشِ أشعاري .."

أيّها الرّاحلُ هناك , توقّف فمنَ " الخليجِ إلى المحيط لا زالوا يعدّونَ الرّمال " ,

توقّف فما زالَ في جسدِ زهرِ اللّوزِ جرحٌ لم يفور , ما زالَ في زهرِ جسدِ اللّوزِ جرحٌ لم يغور ..

ما زالَ هناكَ أمنية , تنقلُ صوتكَ إلى القلوب الغافية ,

تحملُ حنجرتكَ المكرّسةُ لأغاني الوطنِ في أفواهِ الرّصاصِ إلى الأيادي الثّملةِ بالخيانة ..

توقّف ..

لا زالَ هناكَ " أحمدٌ " غافٍ على رصيفِ الجرحِ يبكي , يُطلقُ من فوهةِ عينيهِ قنبلةً تُسقطُ في كلِّ يومٍ وجهاً عارياً ,

و يسمعُ قلبكَ ينبضُ ,

فيتلو و أمامَ يديهِ غصنُ ليمونٍ " سقطَت ذراعكَ فالتقطها , و اضرب عدوّكَ لا مفرّ " ..

توقّف لم يبقَ في بيروتَ ألفٌ و باء , و على رفوفِ دمشقَ تصطفُّ العصافيرُ و تغترب ,

و القدسُ تئنُّ و في يديها " تتكسّرُ السّماءُ على رغيفِ الخبز " ,

و بغدادُ تنعي حزينةً جسدَ الحلمِ القتيل ,

و " لا جديدَ لدى العروبةِ " ..

يا محمود , لِمَ ترحلُ و تتركُ قصائدَ الوداعِ تائهةً على فمِ عاشقٍ يحلمُ بحمامةٍ تطيرُ و لا تخاف ,

تبكي و تجمعُ دموعها في سلّةٍ من قبلاتٍ لم ينفيها وطنٌ لأجلِ حزنٍ وجوازِ سفر ؟

يا محمود , بعضُنا باقٍ بعدكَ و كثيرنا رحلَ قبلكَ ,

هويّاتنا و انتماءتنا و بعضٌ من دمنا قد سبَقنا في ريحِ الغيابِ ,

و بقينا ننعي قيودَنا الموؤدة و حريّةً تائهةً على شكلِ قلم ..


أيّها العصفورُ المناضلُ في شظايا أمّةٍ فقدّت بليلةٍ وشاحها الذّهبي,

و التحفت بقصيدةٍ تمحو خيبةً أورثَهَا عقوقٌ بالأرضِ , بشبرٍ من الأرضِ ,

بذرّةٍ من ترابِ أرضٍ بلونِ دمِ النّوارسِ تحملُ في ثغرها قضيةً و جرحاً و أمّاً ثكلى , لا تزال عندَ عتبةِ البابِ تنتظر ..

عشرونَ عاماً كانَ أحمدُ العربيُّ يرحل , و عشرونَ عاماً , بقيتَ تحملُ جسدَهُ الصّغير , ليصرخَ في وجهنا :أنتم من انتخبتمُ المقصلة ,

لينثرَ فوقَ يدينا غيثَ دمهِ فترتجفَ قبلَ المصافحةِ و تتساقط ..

من سيبقى الآنَ و قد رحلت , و ماذا نفعلُ بأجسادِنا المتضائلة أمامَ جرحِ أحمدٍ ,

و وشاحِ " صبرا " المنتهك , و جناحِ محمّد الدّرة الّذي يريدُ - فقط - أن يعودَ إلى البيتِ بدونِ درّاجةٍ و قميصِ جديدٍ ؟

ماذا سنفعلُ و في كلِّ يومٍ تتهالكُ مآقي اللّغةِ على عتباتِ الحروفِ المخبّأةِ في طبولِ الفراغِ و فوقَ أرصفةِ المنفى المستوطنِ في الجسد ؟

علّمتنا أن للدّمعِ جذوراً , و استبقيتَ في عينِ أمّهِ دمعتينِ لأجلِ أخٍ أو صاحبٍ , قد يكونُ أنت ..

و كأنّكَ كنتَ تعرفُ أنّنا سنبكيكَ و نقتلعُ الدّمعَ من جذوره ,

أننا سندمعكَ و يقتلعنا جذرُ كلماتِكَ من بكائنا , لنردّدَ صوتكَ العربيّ الضّاربَ في عمقِ الحزنِ الموشّى بقصبِ الحبّ .. و

" عزاؤنا الموروث :
في الغيماتِ ماء ,
و الأرض تعطشُ ,
و السّماء تروى ,
و خمس زنابقٍ شمعيّةٍ في المزهريّة "


أيّها العظيمُ , عمركَ باقٍ إلى الأبدِ في اللّغة , و لكنّها ستبكيكَ ,

ستبكي حاءكَ و الميم , و سترثي لحالِ قصيدةٍ نذرت لقافيتها دالكَ الهاربةَ من منبعِ الضّوء ,

ستبكيكَ بيّاراتُ اللّيمونِ و حقولُ القمحِ و كرومُ العنبِ و أشجارُ التّفاحِ و مزارعُ الزّيتونِ وغاباتُ السّنديانِ و الأرزِ و واحاتُ النّخيل ,

ستبكيكَ نوارسُ البحر و سنونواتُ المدينةِ و قمرُ الشّتاءِ و المطرُ في صلاةٍ أخيرة , و لوركا إذ يودّعُ تراتيلَ الصّدقاتِ في اسبانيا و يحملُ

" آخرَ الأخبارِ من مدريد :
شبعَ الصّابرُ صبراً "..

أيّها الباقي في حناجرنا , تُشعلُ القصيدَ في أفواهِ دمنا ,

و تمنحُ بروحكِ إذ تحفّها ملائكةُ النّورِ سنابلَ القمحِ القديمِ طواحينَ الأفواهِ الصّدئةِ بالغيابِ و الرّحيل ,

فتنتثرُ اللّغةُ فوقَ مُدنِ الكلامِ كخبزِ غيمةٍ حُبلى بتلاواتِ الأرواحِ المكلومة ..

أنتَ أيّها المهاجرُ في الصّبحِ البعيدِ , على زندِ قصائدكَ ستولدُ ألفُ ريتا و تغفو كجفني سماءٍ تكتحلُ المساءَ و تودعهُ ثغرها الصّغيرَ سرّاً لبندقيّة ..

الآن إذ نصحو , سنتذكّر " طريقَ دمشق " و " قصيدةَ الخبزِ " و " الرّملِ " و " الأرض " ,

و سنحملُ " عبء الفراشات" على أكتافِ حطّابٍ و عاشقة ..

الآن إذ نصحو , سنذكركَ و في عينينا أمنيةٌ أن يبقى هذا الدّرويشُ العربيُّ , حنجرةَ الأجيالِ القادمةِ ,

و يدهمُ النّاطقةُ بحقِّ الدّمِ الغائرِ في الأرض ,

أن يبقى حبّهم المتّسع كحقولِ الذّرةِ و غزلهمُ الممزوجَ بالأزهارِ و البارود ,

و أطفالهم البريئةُ الّتي تكتبُ على جدرانِ ضميرهم كلَّ يومٍ حكايةَ الوطنِ الجريح ..

:

في قلوبنا باقٍ , و إلى رحمةِ اللّهِ مرتحلٌ يا محمود ..

الاثنين، 4 أغسطس 2008

Pantomime !

*

http://www.youtube.com/watch?v=GtD8Pgm1J-w&feature=related


:
لستُ ادري كم من عامٍ انقضى قبلَ أن أدركَ انّني شجرة ,

نعم شجرة ..


شجرة يُشبهُ لحائها وجوهَ الجدّات , و تبرزُ أغصانها متفائلةً كأوردةِ الملّاحينَ القدامى ,و تتبعثرُ أوراقها كضحكاتِ الأطفال قبلَ اغتصابِ الفرحِ بابتسامةٍ على الأقل !


ظننتُ دوماً انّي سنونوة , و حينَ وقفتُ يوماً على ذراعِ الأميرِ النّبيلِ في " مونتي كارلو " , علمتُ جيّداً أنّ رائحةَ الدّراقِ على أجنحتي أوحَت إليهِ بأن يذرفَ دمعةً بطعمِ اللّؤلؤ ...


ظننتُ خاطئةً أنّ لي أجنحة و أنّ أقدامي تنعمُ بحريّةِ الفضاءاتِ الهاربة من حدودِ الأزمنة , وددتُ لو كنتُ طائراً أكبر , بحجمِ يديكَ مثلاً , أو ربّما بطولِ أنفاسكَ و هي تردّدُ اسمي ..


حينَ اكتشفتُ أنّ أقدامي عالقةً برملِ حلمٍ مشبوه , و أنّ رائحةَ ترابِ وطني تفوحُ من دمي فتزرعني هُناكَ جُذعاً مكلوماً بأوعيته , و أنّ كلّ الرّقصاتِ الّتي تمرَّنَتْ عليها يدايَ ما كانت إلا كخيالِ مريضٍ يحلمُ بالشّفاءِ و هو على سرير الموت ..
حينها علمتُ أنّ الفرحَ كائنٌ أسطوريّ يُشبهنا , على مقاسِ خيباتنا , نحلمُ بهِ حتّى يتمثّلَ لنا بهم , ثمّ يتلاشى كدخّانِ عرّافةٍ محترفة !


:


تحتَ ثيابي كانت هناكَ امرأةٌ أخرى ,
لا ..
ربّما كانت حقيبةً لازورديّةَ الشّكلِ مختومةً بتواضعِ غرورٍ أتقنَ التّمثيل ,


أو ربّما كانت بضعةَ اسطواناتٍ بلحنٍ غريبٍ كـ " سوناتا " الوجع في لحظةِ تحرّرٍ من النّوتة !


شيءٌ ما غيري كانَ هُناك , كانَ يدركُ أنّني حينَ ألقاكَ سأتكوّم , و لذا كان يفردُ يديهِ و يقصُّ أصابعَ الغيابِ و يملأُ جبهتي بدمعه ,


شيءٌ ما كانَ يمنحني صوتاً لا أملكه , لأتظاهرَ امامكَ انّني لا زلتُ أنا , طفلةً بنكهةِ شجرةِ ليمون ,و لقلقلاً حزيناً لا يملُّ الوقوفَ على قدمٍ واحدة !


لذا كانَت كلماتي تُصبحُ فراشاتٍ منَ الدّانتيل الّذي تعشقهُ و هو يطوّقُ جيدي , و كانت حروفي تتحوّلُ إلى بقعٍ قرمزيّةٍ على مساءِ البحيراتِ المكتئبة فتمنحها شرفَ الموتِ بفرحةِ العناقِ الأوّل لبجعةٍ بيضاء ..


لذا كنتُ أنا هُناكَ ألتحفُ حلماً دائريّاً على مقاسِ اصبعي , و أناشدُ حلماً آخر ألا يتوقّفَ عن البُكاء ..

:

ليلةً حزينةً ..


قالتْها عيناك , ثمّ استدارت لتُكملَ دورةَ الغيابِ الأولى حولَ الفرح , وحدها يداك أيقنت أنّ أوتارَ الحنجرة تلتفُّ كأغصانِ العليّق على الفرح , فتمتلكُ خطواته .

شفاهكَ الّتي تعانقُ دخّانَ قلبي , لا زالت تُمارسُ ذاتَ الحركاتِ الفوضوّيةَ على سلالمِ عينيّ , و تعلّمني كيفَ تكونُ القراءةُ مبلّلةً بالمطر , و كيفَ تُصبحُ الموسيقى لوحةً سريالية !

ينحني ماردٌ عميقٌ بطولِ حُزني في داخلك , يحملُ وجهي في سلّةِ من قشِّ المسافاتِ الغريبة , و يتفرّسُ ملامحَ الفقدِ في عينيّ و يمرّرُ أصابعهُ بمحاذاةِ أرقي ثمّ يضعني أمامَ ذاكرته و يتضاءل ..

ليست يداي وحدها من تعلّمت الرّقص , فكل مساماتِ جلدكَ تُشاركها لذّة / وجعَ اللّهفةِ بذاتِ القدرةِ على سرقةِ الأشياء , بذاتِ القدرةِ على منحِ اللّون الأزرقِ شتاءَهُ الموؤد ..


أكنتَ تعلمُ أنّكَ حين ستحرّكُ كتفيكَ لا مبالياً بأناقةِ أنفاسي و تواترها الملتوي عبرَ صدركَ أنّ رأسي سيسقطُ و يتحرجُ على عتبةِ الكلام ؟


لا , كنتَ تظنُّ فقط أنّ الأثوابَ ترتدي وجعنا , ثمَّ تحيكَ لنا قصّةً على مقاسِ أرواحنا المهترئة , رقعةً بلون غيمةٍ منتشية أو ظبيٍ فقدَ صوته !


أمّا أنا فكنتُ أكثر جهلاً منكَ بي , فاعتقدتُ أنَّ المغفرةَ ملوّنة و أنّ الحبَّ ينتهي دوماً كأحلامِ الأطفال و أنّ الماردَ يخرجُ كلَّ صباحٍ من ذاكرتنا و يبني للسّعادةِ قصراً جديداً و يُهديها صولجانَ الحريّةِ و تاجَ الرّغباتِ المدوّرة ..

اعتقدتُ أنّ للفقدِ عينين يرانا بها و يتجنّبُ الوقوعَ بِنا , و أنّ سلالم الطّائرةِ تُدركُ الأرضَ الّتي تحتضنها و تُمارسُ تقبيلها كما يفعلُ عاشقٌ متمرّس , وأنّ الأيادي فعلُ انتماء و الاعينَ سلالُ عطشٍ من بيّاراتِ دموعنا المتناثرةِ على سفحِ حبٍّ وليد ..
:


لا زلتُ أشارككَ الرّغبةَ في احتضاني , و أراقبُ ظهركَ و أنتَ تلتجأُ لهُ خوفاً من وطنٍ لن يكونَ بحجم انتمائك , ثمّ تمارسُ حركتكَ المعهودة :

تديرُ رأسكَ و تتفقّدُ روحي على كتفكَ الأيسر , ثمَّ تربّتُ على رئتي في جانبِ صدركَ الأيمن , ثمّ تلامسُ شرياني في حنجرتك و تمشي باتّجاهِ البابِ المحاصرِ بأـشواكِ الرّحيل و تمضي و في عينيكَ سؤالٌ صغيرٌ بحجمِ طفلٍ جاوزَ سنتهُ الواحدة !

حينَ ستنهمرُ شلالات صمتي أمام دموعي , و تغمرني عيناكَ بخوفٍ طفوليٍّ على أنفاسيَ الموقوتة و نبضيِ المتقّد , سأعلمُ أنَّ شفاهنا موقنةٌ بحتميّةِ اللّقاءِ و ضرورةِ الفراق و انّها ستكبتُ أغنياتنا و تردّدُ اسمينا في قالبٍ من مشابكِ الفرحِ المخبوءِ في محيطاتِ الإيمان بالشّك و اليقينِ برعشةِ الخوف ,

حين ستُغلق ُالسّتائرَ خوفاً على لهفِ حروفنا من الهرب , و تدركُ أنّنا كلماتنا , أنّنا كلُّ حرفٍ نطلقهُ في العدم , أنّنا ثمانٍ و عشرينَ خيبةً و فرحاً و قلقاً و يقيناً , أنّنا نحرّكُ الأشياءَ بسكوننا , ونمنحُ مشاعرنا حياةَ الأقفاصِ الذّهبيةِ حين نصمت , و حريّة العصافيرِ الشّاردة حينَ نتكلّم ,

حينها قد ألّفُّ صوتكَ بشاليَ الموشّحِ به , و أضمّهُ إلى صدري ليلتحمَ بحنجرتي , و أهدي حِبالَنا الصّوتية إلى آخر خيوطِ الشّمسِ في الشّمال .. و نمضي !

* Jean & Brigitte Soubeyran , Pantomime, 1950